الإيطالية نيوز، الأحد 13 أبريل 2025 - يزعم موقع "ليندبندنتي أونلاين" الإيطالي أنَّ الاتحاد الأوروبي أنشأ آلة دعاية مؤسَّسية حقيقية مُغلَّفةً بخطاب "القيم الأوروبية. إنَّها استراتيجية شعرية متخفِّية جيِّدًا تحت غطاء نبيل هو "تعزيز القيم الديمقراطية"، ولكنَّها في الواقع تُترجَم إلى عملية تسويق سياسي عملاقة. آلةُُ يحدثُ من خلالها، تحت مُبرِّرٍ عامٍ هو المساعدة من أجل الديمقراطية والتنمية، تحويل ملايين اليورو إلى خزائن المنظَّمات غير الحكومية ومراكز الأبحاث التي تُنفِّذ مشاريع بهدف توجيه الرأي العام في البلدان الأعضاء وتعزيز الأجندة السياسية لبروكسل (مقر المفوضية الأوروبية) و"التكامل الأوروبي".
وهذا ما جرى تفصيله في تقرير بعنوان "آلة الدعاية للاتحاد الأوروبي"، كتبه «توماس فاتسي» (Thomas Fazi) - وهو صحفي وباحث إيطالي - ونشره مركز الأبحاث المجري "كلية ماتياس كورفينوس".
ووفقًا لموقع "ليندبندنتي أونلاين"، يعتبرر هذا التقرير مهمًّا، لأنّه، بحسبه، يكشف للمرَّة الأولى بطريقة عضوية، وبناءً على الدراسة المباشرة للميزانيات الأوروبية، عن النِّظام الذي يَستخدِم من خلاله الاتحاد الأوروبي القطاع الثالث لما يُعرَف بأنَّه عمل من أعمال "الدعاية بالوكالة" و"الإمبريالية الثقافية".
المنظمات غير الحكومية بمثابة مُكبِّرات صوتٍ للمفوضية
توجد العديد من الهيئات الأوروبية التي يحدث من خلالها نشر مشاريع الترويج الذَّاتي لبروكسل. وبين هذه المشاريع، يلعب مشروع "سيرف" (CERV)، وهو مشروع أطلقته المفوضية الأوروبية في عام 2021، دورًا محوريًا، وبين أهدافه الصريحة "حماية وتعزيز القيم الأوروبية". يُموِّل برنامج "سيرف" مشاريع تهدف إلى حماية التنوُّع (المثلية الجنسية) والحقوق المدنية، ومكافحة العنف القائم على النوع الجنسي، وتعزيز مشاركة المواطنين في الحياة الديمقراطية وتقدير التاريخ الأوروبي.
ومن خلال هذه المشاريع وغيرها، يَستخدم الاتحاد منظّمات غير الحكومية لتعزيز أهدافه السياسية بين المواطنين، بطريقة تبدو، كما يُوضِّح التقرير، قابلة للمقارنة مع الطريقة التي تَستخدِم بها الولايات المتحدة منظمات مثل "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (USAID)، وهي الوكالة التي تتعامل تاريخيا مع تعزيز الإيديولوجية الأميركية وتوجيه الرأي العام في البلدان التي تعمل فيها. ولكن مع وجود فارق جوهري واحد، وهو ما يشرحه «توماس فاتسي» لصحيفة "لينديپيندينتي". يقول: “في حين أنَّ مهمة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تتمثَّل في تنفيذ وظائف الدعاية للولايات المتحدة داخل البلدان الأجنبية، فإنَّ مركز "سيرف" والمشاريع الأوروبية الأخرى تعمل على توجيه الرأي العام في البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي نفسها.”
وبحسب التقرير، فمن خلال المشاريع التي تتعامل ظاهريًا مع تعزيز القيم العالمية مثل "حماية الأقلِّيات"، من أجل الحدِّ من التمييز وتعزيز الديمقراطية، يعمل الاتحاد الأوروبي على "تشويه المناقشات العامَّة حول القضايا السياسية الرئيسية وتعزيز السَّرد أُحادي الجانب" وتستخدم أوروبا أدواتها المالية "كسلاح لإسكات المعارضة وتعزيز سلطتها، ما يُثير مخاوف جدِّية بشأن الانحدار الديمقراطي الذي يحدث في جميع أنحاء أوروبا".
كم تبلغ تكلفة هذه الآلة الدعائية الأوروبية؟ يقول «توماس فاتسي»: “من الصَّعب أن نقول ذلك، لأنَّ الأموال المستخدَمة للتلاعب بالرأي العام لا يحدثَ توجيهها إلى مشاريع محدَّدة، بل تُوزَّع على مشاريع متعدِّدة مختلفة.” على سبيل المثال، يوجد 1،8 مليار يورو مخصَّصة لتعزيز "الحقوق والقيم"، ولكن يوجد أيضا العديد من المصادر الأخرى، مثل الأموال المخصَّصة للابتكار الرَّقمي ولكن جزئيًا مخصَّصة لمكافحة "التضليل"، وهو مصطلح شامل يُحدِّد بشكل متزايد جميع الآراء المعارضة. يقول المؤلِّف: “إنَّ السُّلطات الأوروبية تحبُّ التباهي بالتهديد الخارجي ضدَّ ديمقراطيتنا، ولكن، في الواقع، فإنَّ العامل الرئيسي الذي يُهدِّد الديمقراطية في أوروبا هو المفوضية الأوروبية نفسها.”
الاتِّهام الأوَّل واضح: تقوم المفوضية الأوروبية بتمويل منظَّمات غير الحكومية ومراكز الفكر التي تعمل بمثابة "المشجِّعين" لها، ممَّا يؤدِّي إلى تشويه فكرة المجتمع المدني. وهذا ما يُطلَق عليه التَّقرير "الدعاية بالوكالة". وأصبحت العديد من المنظَّمات تعتمد ماليًا على بروكسل وأصبحت فعليًا أدوات لنقل أجندة المفوضية. إنَّ هذا ليس دعمًا محايدًا للنِّقاش العام، بل هو عملية مصمِّمة لتعزيز الروايات المؤيِّدة للاتحاد الأوروبي، وتشويه سمعة التشكُّك في أوروبا، وتقديم التكامل الأوروبي باعتباره السبيل الوحيد الممكن للمضي قدمًا. ويقول التقرير إنَّه تحت شعار المشاركة المدنية، قامت بروكسل ببناء شبكة اتِّصالات موازية تتجاوز الحكومات الوطنية وتعمل مباشرة على السكَّان.
الإمبريالية الثقافية والإجماع الاصطناعي
وراء الحياد الظاهري في تعزيز "قيم الاتحاد الأوروبي"، توجد عملية تطبيع ثقافي. ويتحدَّث التَّقرير صراحة عن "الامبريالية الثقافية": وتدعم المفوِّضية المعايير الليبرالية التقدُّمية التي تتعارض في العديد من الدول الأعضاء ــ وخاصة في أوروبا الوسطى والشرقية ــ مع السياقات التاريخية والثقافية المحلية. وتُشكِّل حالة الترويج لأجندة "المثلية والتحوُّل الجنسي" (+LGBTQ) في بلدان مثل المجر أو بولندا مثالاً واضحا. وهذه العمليات، بحسب التقرير، لا تقتصر على مكافحة التمييز على أساس الجنس والهوية الجنسية، بل تهدف إلى "اعتماد لغات وسلوكيات وسياسات تتوافق مع المبادئ التقدُّمية السائدة في بروكسل"، حتى على حساب الحساسية الديمقراطية للدول الفردية.
ويساهم نظام التمويل الأوروبي، بحسب التقرير، في تشويه النِّقاش العام وإضعاف التعدُّدية. لا يحدث تمويل إلَّا السَّرديات التي تُعزِّز التكامل الأوروبي، في حين تظلُّ المواقف الحاسمة مهمَّشة ومحرومة من الموارد. وهكذا، كما يكتب «فاتسي»، “يحدث خلق وهم وجود إجماع واسع النِّطاق حول أجندة الاتحاد الأوروبي”، في حين أنَّ هذا الإجماع في الواقع هو إجماع مصطنع جرى شراؤه بأموال عامَّة. إنَّ المنظمات غير الحكومية التي يحدثُ تمويلها تُقدَّم بشكل منهجي على أنَّها أصوات مستقلَّة للمجتمع المدني، ولكنَّها في الواقع جزء عضوي من الجهاز الأوروبي. "إن هذا"، كما جاء في التقرير، "صراع هائل على المصالح متخفِّي في صورة المشاركة الديمقراطية". وفي الوقت نفسه، يرى المواطنون الذين لا يشتركون في أجندة الاتحاد الأوروبي أنَّ آراءهم مستبعَدة من النقاش المشروع.
مكافحة "الأخبار الكاذبة" كأداة للرَّقابة
يتضمَّن فصل أخر من التقرير تفاصيل حول "تعزيز الرَّقابة". إنَّ الحجة التي تبدو نبيلة هي محاربة التضليل الإعلامي. لكن في الواقع، وكما يُنَدِّد المؤلِّفون، فإنَّ الأمر في كثير من الأحيان يتعلَّق بتشويه سمعة كل صوت ناقد. بعض المشاريع التي يموِّلها برنامج "سيرف" واضحة تمامًا بهذا المعنى. مثل مشروع "إحياء الاتحاد الأوروبي" (RevivEU)، الذي حصل على 645 ألف يورو في عامي 2023/2024 "لمكافحة السَّرديات المتشكِّكة في أوروبا الناشئة التي روَّجتها بالفعل النخب الاستبدادية"، وكذلك "لإحياء جاذبية الاتحاد الأوروبي في أذهان المواطنين".
بالإضافة إلى ذلك، جرى توزيع 270 ألف يورو على منظَّمات غير الحكومية ومراكز الفكر في مختلف البلدان (بما في ذلك إيطاليا) "لتحديد ورسم خريطة وكشف المواضيع والخطابات والجهات الفاعلة والناقلات التي تروِّج وتنقل رسائل تهدف إلى تقويض ثقة المواطنين في سياسات الاتحاد الأوروبي". ويتابع التَّقرير أنَّ بروكسل تموِّل أيضًا إنشاء بوابات معلومات "معتمَّدة"، وخوارزميات لاستهداف المحتوى الذي يُعتبر "موثوقًا"، ومنصَّات اجتماعية مصمَّمة على غرار السَّرديات المؤيِّدة للاتحاد الأوروبي.
ويقول «توماس فاتسي» إنَّ الآثار المترتِّبة على هذه المشاريع لا لبس فيها: “يجب تحويل المعلومات إلى أداة انضباط، وأي رسالة من شأنها أن تُقلِّل من الثِّقة في الاتحاد الأوروبي يجب تصنيفها تلقائيًا على أنَّها معلومات مضلِّلة.”
التدخل السياسي: الاتحاد الأوروبي يتدخّل بقوة
يَتَّهم التقرير المفوضية الأوروبية صراحةً بالانخراط في "تدخُّل أجنبي" في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء التي تحكمها قوى متشكِّكة في أوروبا. ويحدث هذا في المجر، حيث هاجمت المنظمات غير الحكومية المموَّلة من بروكسل حكومة «أوربان» علانيةً. ويحدث هذا في بولندا، حيث جرى إنشاء محور حقيقي بين المجتمع المدني "الأوروبي" والمفوضية الأوروبية لإضعاف المحافظين في حزب القانون والعدالة. وفي بعض الأحيان يكون التدخُّل مباشرًا، من خلال تجميد الأموال الهيكلية وأموال الإنعاش لأسباب سياسية. وفي أحيان أخرى يكون ذلك بطريقة غير مباشرة، ولكن ربَّما بطريقة أكثر خبثًا: استخدام بعض المنظمات غير الحكومية المحلية لنزع الشرعية عن الحكومات المنتخَبة. وكما جاء في النص “إن المفوضية لا تقتصر على تعزيز القيم: بل تسعى بشكل نشط إلى التأثير على التوازنات السياسية الداخلية للدول الأعضاء.” استراتيجية تثير التساؤلات حول السيادة الشعبية والديمقراطية داخل الدول الأعضاء.
ومن الأمثلة المثيرة للاهتمام بشكل خاص حالة رومانيا، وهي واحدة من البلدان التي استثمرت فيها المفوضية أكبر قدر من الأموال في تمويل المشاريع المؤيدة للاتحاد الأوروبي من خلال برنامج "سيرف". لقد تلقَّت المنظمات غير الحكومية ومراكز الدراسات الرومانية أموالاً لأغراض سياسية معلنة بوضوح: "مكافحة التضليل الذي يقوِّض الثِّقة في الاتحاد الأوروبي"، "مراقبة اللُّغة التي يستخدمها الممثِّلون السياسيون"، "تعزيز السَّرد الأوروبي في وسائل الإعلام المحلية". وفي بعض الحالات، جرى تمويل أنشطة تقترب من المراقبة السياسية. يهدف مشروع مموَّل في عام 2025 إلى "مراقبة اللغة التي يستخدمها المسؤولون المنتخَبون على وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام التقليدية". في الممارسة العملية، هناك نظام لرسم خريطة المعارضة وتخفيف حدَّتها. وبين هؤلاء، Blue4EU: أكثر من 375 ألف يورو تبرَّعت بها بروكسل خلال الفترة 2024/2026، في مشروع نسَّقته جامعة بابيش-بولياي، بهدف "تحسين التفكير النقدي والمرونة لدى الشباب اتِّجاه الحركات المتطرِّفة والمعادية للاتحاد الأوروبي الحالية" و"منصة لتحدي التشكُّك في أوروبا".
ولكن رومانيا نفسُها أثبتت أنَّه عندما تفشل الدعاية في وقف نمو الأحزاب السياسية والشخصيات التي لا تحبها القيادة الحالية، فإنَّ أي وسيلة يمكن أن تُصبح مشروعةً. بعد فوز المرشح «كالين جورجيسكو»، الذي جرى تعريفه بأنَّه "يميني متطرِّف" و"مؤيِّد لروسيا"، بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 24 نوفمبر، قرَّرت المحكمة الدستورية الرومانية أوَّلاً إلغاء الاستشارة لأنَّ التصويت تعرَّض للتدخُّل من قبل "الدِّعاية الروسية"، ثم استبعدت «جورجيسكو» من إعادة الانتخاب بتُهمة "تقويض النظام الدستوري والترويج لمنظمة على الطراز الفاشي". قرارات دفعت صحيفة "فاينانشال تايمز" الليبرالية الشهيرة إلى إدراج البلاد ضمن الأنظمة الهجينة وغير الديمقراطية بالكامل في تقريرها السنوي لمؤشر الديمقراطية العالمية. وبذلك أصبحت رومانيا أول دولة في الاتحاد الأوروبي يتم تصنيفها كدولة غير ديمقراطية. ولكن هذه المرَّة لم يكن هناك أي إدانة لاستبعاد «جورجيسكو» من المفوضية الأوروبية، التي هي دائما على استعداد للتدخُّل لصالح الديمقراطية في أي سياق، والواقع أن عمل المحكمة الدستورية حظي بدعم كبير.
ويختتم التقرير بتسليط الضوء على مفارقة: بين الأضرار الجانبية التي تُسبِّبها آلة الدعاية الأوروبية ليس فقط الديمقراطية والسيادة الشعبية للمواطنين الأوروبيين أنفسهم، بل وأيضًا المنظمات غير الحكومية نفسها. إن استخدام "المجتمع المدني" كأداة سياسية يولد انعدام الثقة العام اتّجاه القطاع بأكمله. وكما جاء في التقرير“إن المنظمات غير الحكومية الحقيقية معرضة لخطر الإرهاق بسبب ردود الفعل العنيفة ضد مجمع الاتحاد الأوروبي والمنظمات غير الحكومية"”. يحدث خلط بين النشاط الصادق والدعاية المُقَنَّعة. والخطر هنا هو أنَّ من يدفع الثمن هي المنظمات ذاتها التي تناضل من أجل الحقوق والبيئة والاندماج الاجتماعي ــ ليس لإرضاء بروكسل، بل للاستجابة للاحتياجات الحقيقية.