وتحدَّث الكثيرون عن "الاشتباكات"، كما جرى التركيز على الكتابات على الجُدران وتخريب الواجهات، متجاهلين تمامًا الحدث الحقيقي: بعد أكثر من عام من التعبئة المستمرّة، تجمَّع عشرات الآلاف مرَّة أُخرى للتظاهر ضد إبادة جماعية تحدُث أمام أعين العالم، بدعم أيضًا من الحكومة الإيطالية.
علاوة على ذلك، "الاشتباكات" نفسها التي تصدَّرت عناوين الصُّحف، جرى سردها بطريقة متحيِّزة وجزئية. وتقول صحيفة "إنديبندنتي" أنها كانت حاضرة بطاقمها، الذ قال: “بعد أن تعرَّضنا لبعض الضَّربات بالهراوات، يمكننا أن نروي ما حدث فعليًا.”
وبدأت الشرطة هجومها بعد مسيرة سلمية طويلة عند مدخل ساحة "بايامونتي". وهنا ينبغي توضيح أكر: تتشكَّل نهاية الطريق المؤدِّي إلى الساحة من طريق ذو مسار واحد مع مسارات الترام التي تمتدُّ على طول كلا المسارين. على اليسار مُغلَق بواسطة المباني وعلى اليمين يبدأ في الانفتاح على الساحة. وبعد مسافة قصيرة، توجد جزيرة مرورية تفتح أيضًا الساحة إلى اليسار. اصطفَّ رجال الشرطة على الجانب الأيمن من السَّاحة، وبعد جزيرة المرور، على الجانب الأيسر. بمجرَّد دخولي إلى السَّاحة لاحظتُ أنَّ الشرطة تستعدُّ للهجوم. لذا وضعتُ نفسي على مسافة آمنة، على الجانب الأيسر من الساحة، لمراقبة ما كان يحدث. وعندما وصلت "لافتة" إلى جزيرة المرور، والتي لم يكن خلفها سوى أشخاص كانوا يعتزمون المشي، حاصرت الشرطة الموكب، وقسَّمته إلى نصفين، وهاجمت المتظاهرين. وحاولت الشرطة اعتقال بعض الحاضرين بطريقة تعسُّفية، مستخدمة هراواتها عشوائيًا. في هذه الأثناء، بدأ الطُّوق الموازي للطُّوق الذي بدأ الهجوم بدفع المتظاهرين بالدُّروع، وضرب الناس، بمن فيهم أنا، بالرَّكلات والهراوات.
وبعد توجيه الاتِّهامات، حاصرت الشُّرطة المتظاهرين، مما أدَّى إلى حالة من الفوضى بين الشرطة من جهة ومعظم المتظاهرين من جهة أخرى. وفي تلك اللحظة بدأت الشرطة بإخراج بعض الحاضرين بشكل تعسُّفي وعنيف. عند رؤية هذا المشهد، تدخَّلت لمساعدة فتى محاط بستَّة ضبَّاط عازمين على ضربه. إنَّ العشوائية المطلقة التي جرى بها القبض على الأشخاص الذين نُقلوا إلى مركز الشرطة تتجلَّى في حقيقة أنَّني كنتُ متوقِّفًا أيضًا، وأنَّني تمكَّنتُ من "تحرير نفسي" فقط من خلال شرح موقفي والقول إنَّني انتهى بي الأمر في وسط الحشد للتأكُّد من عدم إصابة أحد بأذًى.
إنَّ ما وصفته الصحف في مختلف أنحاء إيطاليا بـ"الاشتباكات" لم يكن أكثر من اتِّهامات غير مبرَّرة ومتعمَّدة من قبل سلطات إنفاذ القانون، والتي جرى تنفيذها بهدف وحيد هو تقسيم الموكب إلى "جيد" و"سيِّئ" واعتقال بعض المتظاهرين بسبب انتمائهم المفترَض. عمل مدروس جيِّدًا، لكنَّ تنفيذه كان سيِّئًا للغاية، نظرًا لعدم الكفاءة الكاملة في إيقاف الحاضرين. ومع ذلك، فإنَّ هذا القرار يأتي مباشرةً بعد دخول المرسوم الأمني حَيِّز التنفيذ، مما يُبرِّر في نظر الرأي العام مجموعة الإجراءَات القمعية والقاتلة للحُرِّيات.
إذا كان هذا السَّرد للمرسوم التشريعي وأحداث السَّبت ممكنًا، فهو أيضًا بفضل عناوين الصُّحف التي، بدلًا من الحديث عن الهدف الحقيقي للمظاهرة، فضَّلت عزل بعض حالات الكتابة على الجدران التي لا يمكن نسبها إلى أحد، وتشويه صورة المتظاهرين من خلال تحميلهم مسؤولية عنف الشرطة.
أُقيمت المظاهرة يوم السبت للتنديد بالانتهاكات الإسرائيلية وتورُّط المؤسَّسات الإيطالية في الإبادة الجماعية للشّعب الفلسطيني. ولو أن العاملين في وسائل الإعلام لذين كانوا موجودين في ساحة "بياتسا بيامونتي" فعلوا على نطاق أصغر ما يفعله الصحفيون الفلسطينيون كل يوم واستغلوا موقعهم المتميِّز بالموضوعية لمنع تدهور الوضع، لرُبَّما كانت الصحف اليوم تتحدَّث عن فلسطين وليس عن الكتابات على الجدران.