إنَّ صيانة هذه الآلة الضَّخمة أصبحت ممكنةً في المقام الأوَّل بفضل المصارف، والتي لولا قروضها واستثماراتها لانهار القطاع على نفسه. وبينما أنَّ بعض المؤسَّسات المالية ملتزمةُُ بالتمويل الأخلاقي، فإنَّ العديد من المصارف الأكثر نفوذًا، حتَّى في بلدنا، تواصل تمويل صناعة الحرب، مما يؤدِّي إلى تأجيج الحروب التي تزعزع استقرار مناطق بأكملها. ومن الضَّروري بالتَّالي استكشاف دور ما يُسمى "البنوك المسلَّحة"، وتحليل البيانات والاستراتيجيات والآثار المترتِّبة على قطاع يؤثِّر بشكل مباشر على حياة الملايين من الناس. وفهم أيضًا أيُّهما تختارُ إذا كنتَ لا تريد أن تكون متواطئًا في تمويل الحرب.
تمويل صناعة الحرب
يشير مصطلح "البنوك المسلّآحة" إلى المؤسَّسات المالية التي تُقدِّم الدَّعم المالي لصناعة الأسلحة من خلال دعم وتسهيل إنتاج وتجارة الأسلحة من خلال أدوات مالية مختلفة. وتثير هذه الظاهرة تساؤلات أخلاقية وسياسية، لأنَّ القطاع المصرفي لا يقوم فقط بالتوسُّط في رأس المال، بل يؤثِّر بطريقة مباشرة على تطوُّر الصراعات العالمية.
تساهم "البنوك المسلَّحة" في صناعة الأسلحة من خلال مجموعة متنوِّعة من الآليات، في المقام الأول من خلال الإقراض، وتوفير رأس المال لمُصَنِّعي الأسلحة، وتمكين هذه الشركات من الاستثمار في البحث والتطوير والإنتاج. ويوجد أيضًا مسألة الاستثمارات في الأسهم: إذ تشتري العديد من البنوك أسهمًا في شركات تعمل في إنتاج الأسلحة، وبالتالي تُحقِّق أرباحًا من بيع الأسلحة. كما تقوم شركات الدِّفاع في كثير من الأحيان بإصدار أوراق مالية دين لجمع رأس المال في الأسواق المالية، حيث تقوم البنوك بتسهيل هذه العمليات من خلال ضمان شراء السندات وإعادة بيعها للمستثمرين. وأخيرًا، غالبًا ما تعمل البنوك كوسيط في التدفُّقات المالية بين مُنتجي الأسلحة والحكومات، ممَّا يضمن إجراء مدفوعات التصدير بطريقة آمنة وسرِّية.
وعلى الصَّعيد العالمي، جرى تخصيص ما لا يقل عن 959 مليار دولار لصناعة الدِّفاع من قبل البنوك وصناديق الاستثمار وشركات التأمين بين عامي 2020 و2022، وفقًا لتقرير صادر عن "التحالف العالمي للخدمات المصرفية القائمة على القيم" (GABV).
وتُهيمن المؤسَّسات المالية الأميركية على هذه السُّوق، حيث تعدُّ شركات "فانغارد" (92 مليار دولار)، و"بلاك روك" (68 مليار دولار)، و"ستيت ستريت" (67 مليار دولار) بين المستثمرين الرئيسيين في الشَّركات المرتبطة بالدِّفاع. وراء إنتاج وبيع الأسلحة يوجد نظام معقَّد من التمويل يمرُّ عبر البنوك. وساهم أكبر 10 مستثمرين أوروبيين بمبلغ إجمالي قدره 79 مليار دولار، أو %8 من الإجمالي، وهم جميعًا ممثلين لـ 40 مؤسَّسات مالية كبىره تستثمر في صناعة الأسلحة العالمية. وعلى المنصَّة يوجد بنك "بي إن بي باريبا" (BNP Paribas) الفرنسي (14 مليار دولار)، و"بنك دويتشه" (Deutsche Bank) الألماني (13 مليار دولار)، وبنك "كريدي أغريكول" (Crédit Agricole) الفرنسي (10 مليارات دولار).
إنَّ أكبر خمسة مستثمرين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ هم جميعهم من اليابان: حيث استثمروا ما مجموعه 45 مليار دولار، أو %5 من إجمالي الاستثمارات. ويتركَّز الجزء الأكبر من الاستثمارات في قطاع الأسلحة في الأسهم، والتي تبلغ قيمتها 660 مليار دولار، في حين تُشكِّل السَّندات أقل من %1 من الإجمالي. ومع ذلك، فإنَّ هذه البيانات تعتمد على معلومات عامة محدودة، وبالتَّالي فهي لا تقدِّم صورة كاملة عن الوضع. ومن المرجَّح أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك بكثير، حيث لا توجد قاعدة بيانات رسمية يمكنها تتبُّع جميع الاستثمارات والقروض والخدمات المالية التي تُقدِّمها المؤسَّسات المصرفية والمالية العالمية لصناعة الأسلحة بشكل شامل.
البنوك العاملة في إيطاليا
في إيطاليا، ينصُّ القانون 185/90 على إلزام البنوك بالإعلان عن المعاملات المالية المتعلِّقة بصادرات الأسلحة إلى وزارة الاقتصاد. ومع ذلك، تظلُّ العديد من تحرُّكات رأس المال غامضة بسبب استخدام الشركات التَّابعة الأجنبية، والتثليث المالي، والأدوات المشتقَّة لإخفاء المعامَلات. على مدى السنوات الخمس الماضية، أظهرت العلاقة بين القطاع المصرفي الإيطالي وصناعة الحرب اتِّجاهًا متطوِّرًا باستمرار، مع ذروات وانخفاضات وديناميكيات جديدة أعادت تعريف المشهد لما يُسمَّى "البنوك المسلحة".
وشهد عام 2019 نقطة تحوُّل مهمة في نمو المعاملات المصرفية المتعلِّقة بصادرات الأسلحة. وبحسب البيانات الرَّسمية، تجاوز إجمالي المبلغ الذي جرى تحويله 10 مليارات يورو، بزيادة قدرها %27،5 مقارنة مع عام 2018. وبلغت قيمة الصادرات النهائية 9،5 مليار يورو، وهو رقم مثير للدهشة إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الصادرات في عام 2014 بلغت 2،5 مليار يورو فقط (النُّمو بلغ %278 في خمس سنوات فقط). أثبت بنك "يونيكريديت" (Unicredit) نفسه باعتباره البنك الأكثر مشاركة في هذا القطاع، حيث جمع %58،11 من إجمالي مبلغ المعامَلات المتعلِّقة بالصادرات النهائية وحدها. وجاء "بنك دويتشه" في المركز الثاني بنسبة %10،61، ثم بنك "إنتيزا سان باولو" (Intesa Sanpaolo) بنسبة %10،57. وبالمجمل، سيطرت المجموعات الثلاث على أكثر من %80 من السوق. وشهد العام التالي تباطؤًا في تراخيص التصدير الفردية، مع انخفاض بنسبة %3،86 مقارنة مع عام 2019، من 4،085 مليار يورو إلى 3،9 مليار يورو. ومع ذلك، جرى تعويض هذا الانخفاض من خلال زيادة بنسبة %177 في تراخيص النقل العالمية، أي الإمدادات المخصَّصة للبرامج المشترَكة مع دول أخرى في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. في المقابل، تراجع إجمالي قيمة الصادرات بنسبة %10، وتوقَّف عند 4،6 مليار يورو. وظلَّت منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط الوجهات الرئيسية للأسلحة، مع توجُّه مصر وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى مبيعات الأسلحة. وانخفض حجم المعاملات المصرفية المُبلَّغ عنها إلى 7،8 مليار يورو. وفي هذا السياق، تفوَّق بنك "إنتيزا سان باولو" على "دويتشه بنك"، ليحتلَّ المركز الثاني بين مؤسَّسات الائتمان الأكثر مشارَكة في العمليات.
مستقبل غير مؤكَّد
تُمثِّل "البنوك المسلحة" نقطة حاسمة في التشابك بين التمويل والحرب. ومن دون دعم النظام المالي، فإنَّ تجارة الأسلحة على نطاق واسع ستكون أكثر صعوبة، إنْ لَم تكن مستحيلة. ولهذا السَّبب، أصبح من الضَّروري أن يكون المواطنون والمستهلِكون على دراية بكيفية استخدام أموالهم. بإمكان أي شخص لديه حساب مصرفي أو صندوق تقاعد أو تأمين أن يساهم بطريقة غير مباشرة في تمويل صناعة الحرب. وتستخدم البنوك أموال المُدَّخرين للاستثمار والقروض، وإذا انتهى جزء من هذه الأموال في أيدي مُصنِّعي الأسلحة، فإنَّ الأمر يصبح قضيةً أخلاقية تؤثِّر مباشرةً على المواطنين. علاوةً على ذلك، لا تقوم العديد من البنوك بإبلاغ زبنائها بوضوح عن كيفية استخدام أموالهم، لذا فإنَّ طلب الشفافية واختيار مؤسَّسات الائتمان الأخلاقية هو الخطوة الأولى نحو الحصول على سيطرة أكبر على أموالك.
إنَّ تمويل الأسلحة ليس مجرَّد قضية اقتصادية، بل له عواقب مباشرة على الاستقرار العالمي. إنَّ العديد من الحروب تتغذَّى على أسلحة يحدث إنتاجها في بلدان تَدَّعي أنَّها مسالمة، بينما في الواقع تدعم هذه البلدان الحروب وانتهاكات حقوق الإنسان بشكل غير مباشر.
في المقابل، توجد بنوك ذات توجُّه أخلاقي، وسنتحدَّث عنها لاحقًا، ترفض تمويل الصناعة الحربية وتستثمر بدلًا من ذلك في القطاعات المستدامة. إن بحثك وحصولك على المعلومات اللازمة واختيار البنوك التي لديها سياسات واضحة بشأن سحب الاستثمارات من الأسلحة هي طريقة للمساهمة في السلام بطريقة ملموسة.
وفيما يتعلَّق بدور مؤسَّسات الائتمان الإيطالية، فمن المؤكَّد أنه يمكن الإشارة إلى أن العديد من البنوك في بلدنا تلعب دورًا رئيسيًا في دعم الصناعة الحربية، وتوفير رأس المال والقروض والخدمات المالية لمُنتجي الأسلحة. وبين البنوك الرئيسية بنك "يونيكريديت"، الذي يستثمر بشكل كبير في شركات إنتاج الأسلحة، بما في ذلك تلك العاملة في البلدان المشارِكة في النزاعات المسلَّحة، وبنك "إنتيزا سان باولو"، الذي على الرَّغم من اعتماده بعض السياسات التي تحدُّ من الاستثمارات في قطاع الأسلحة، فإنَّه يواصل تمويل الشركات في قطاع الدفاع؛ وبين البنوك الأكثر نشاطا بنك BPM، الذي يُقدِّم الخدمات المالية لشركات تصنيع الأسلحة، مع التركيز بشكل خاص على السوق الأوروبية، وبنك "ميديوبانكا"، الذي يشارك في العمليات المالية لمجموعات الدِّفاع الكبيرة. وبشكل عام، يسلِّط اتِّجاه المعامَلات المصرفية المتعلِّقة بصادرات الأسلحة من عام 2019 إلى عام 2023 الضَّوء على تناوب مراحل النمو الهائل ولحظات الانخفاض في حجم التداول. في حين أن البنوك الكبيرة مثل "يونكريديت" و "إنتيزا سان پاولو" لا تزال تهيمن على القطاع، فإنَّنا نشهد من ناحية أخرى دخول مؤسَّسات ائتمانية أصغر حجمًا، والتي يبدو أنَّها عازمة على حفر مساحة لنفسها في هذا العمل. ويشير الاتِّجاه لعام 2023 إلى احتمال تراجع هذه الظَّاهرة، ولكن يبقى أن نرى ما إذا كان هذا مجرَّد تباطؤ مؤقَّت أم بداية لتغيير هيكلي في القطاع.
أي بنك يجب اختياره لتجنب التواطؤ؟
بناءً على ذلك، تشارك معظم المؤسَّسات المالية الإيطالية الكبرى، بشكل كبير أو معتدل، في الأنشطة المرتبطة بالصناعة العسكرية. وتُظهِر هذه البيانات بوضوح من تقرير "صفر أسلحة"، الذي أعدته مؤسسة "فينانسا إيتِكا" بالتعاون مع "الشبكة الإيطالية للسَّلام ونزع الأسلحة"، والذي تمثِّل أوَّل أداة في إيطاليا وأوروبا تهدف إلى تقييم مدى مشاركة البنوك الإيطالية الرئيسية في تمويل ودعم قطاع الحرب. وأُجريت الدِّراسة من خلال تحليل ثلاثة مجالات أساسية: المساهمات في شركات الدِّفاع، والتمويل المباشر للبرامج العسكرية، والدَّعم اللوجستي لتصدير الأسلحة. في سياق الإنفاق العسكري المتزايد والعلاقات المتزايدة الترابط بين قطاع الدِّفاع والنِّظام المصرفي، يصبح من الضَّروري أن يكتسب المواطنون الوعي حول كيفية استخدام مدَّخراتهم.