كان «لوبان» لسنوات عديدة، إلى حد بعيد، أشهر زعيم لليمين المتطرف الفرنسي، وكان حضوره مرهِقًا، وفي بعض النواحي سامًّا لجودة النقاش الوطني، ما جعل الحزب التعامل معه حتَّى بعد نهاية مسيرته السياسية.
وكما عرفته صحيفة "لوموند" في نعيه، كان لوبان "الرجل الذي أعاد اليمين المتطرِّف إلى مركز السياسة الفرنسية" بعد الحرب العالمية الثانية، وهي السنوات التي احتلَّ فيها الجيش النازي فرنسا وكان نصفها يحكمها نظام «فيشي» (Vichy) المتعاون. على الرَّغم من أنَّ إجماعه كان منخفِضًا نسبيًا لفترة طويلة، إلَّا أنَّه أثر على النقاش العام الفرنسي لسنوات، ولا سيما فيما يتعلق بقضايا مثل الهجرة واندماج الأشخاص من المستعمرات الفرنسية السابقة.
أصدر الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» بيانًا أعرب فيه عن تعازيه لعائلة «لوبان» ووصفه بأنه "شخصية تاريخية لليمين المتطرف" الذي "لعب دورًا في الحياة العامة لبلادنا منذ ما يقرب من سبعين عاما، وهو الآن يقع على عاتق التاريخ ليحكم." ونشر التجمُّع الوطني مذكِّرة إشادة، وصفت فيها «لوبان» بأنها "التي جعلت من الحركة الوطنية أسرة سياسية مستقلة وقوية وحرة". كما أشاد الرئيس الحالي للحزب، «جوردان بارديلا»، بالزعيم السابق وأعرب عن تعازيه للأسرة.
وُلد «لوبان» في "لاترينيتي سور مير" وبدأ حياته المهنية في تولوز على رأس الحركة الطُلَّابية. وفي عام 1953، انضمَّ إلى الفيلق الأجنبي وقاتل في حربي الهند الصينية والجزائر، وبعد ذلك اتُّهم بتعذيب أحد السُّجناء. وفي عام 1962، اعترف «لوبان» بارتكاب أعمال تعذيب في مقال نشرته صحيفة "كومبات". وبعد سنوات عديدة، عاد في سيرته الذاتية إلى هذا القول لينكره: برَّر استخدام التعذيب في الحرب لكنَّه نفى ممارسته بنفسه.
في عام 1956، جرى انتخابه عضوًا في البرلمان عن "حزب الاتحاد والأخوة الفرنسية" اليميني المتطرِّف، وهو حزب قومي متطرِّف صغير. أسَّس "الجبهة الوطنية" في عام 1972 وظلَّ زعيمه حتَّى عام 2011، ما أدَّى إلى أن يُصبح الحزب اليميني المتطرِّف الرئيسي في البلاد، وسط اتِّهامات مختلفة بالعنصرية ومعاداة السامية بسبب خطابه المبالَغ فيه باستمرار. كرمزٍ، اعتمد الشُّعلة ثلاثية الألوان، المستوحاة من شعلة "الحركة الاجتماعية الإيطالية". خلال حياته المهنية، جرى انتخابه أيضًا سبع مرات عضوًا في "البرلمان الأوروبي"، على الرَّغم من أنًّه لم يتميَّز أبدًا بنشاطه التشريعي.
بين أمور أخرى، اقترح «جان ماري لوبان» في الماضي العزل القسري لمرضى فيروس نقص المناعة البشرية، واتَّهم «جاك شيراك» بأنَّه "يحصل على رواتب اليهود"، وانتقد اللَّاعبين السود في المنتخَب الوطني الفرنسي لكرة القدم بحُجَج عنصرية، وحدد «نيكولا ساركوزي» "الأجنبي" بسبب أصوله المجرية.
بين عامي 1974 و2007، ترشَّح للرئاسة خمس مرَّات، وفي عام 2002 تمكَّن بشكل مفاجئ من الوصول إلى جولة الإعادة. وكانت حقيقة وصول «لوبان» إلى الجولة الثانية حدثًا غير متوقَّع بالنسبة لجزء كبير من الشعب الفرنسي، نظرًا لأنَّ اليمين المتطرِّف قبل ذلك لم يتمكَّن قط من الحصول على إجماع مماثل. حشدت كافَّة القوى السياسية لمنع انتخاب سياسي يميني متطرِّف رئيسًا: حتى صحيفة اليسار الفرنسي الرئيسية، "ليبراسيون"، نشرت عددًا يحمل وجه «لوبان» على الغلاف وكلمة "لا" مكتوبة بأحرف كبيرة.
في الجولة الثانية، هُزم «لوبان» أمام السياسي المحافظ «جاك شيراك»، الذي حصل على أكثر من 80 بالمائة من الأصوات مقابل 17،9 بالمائة التي حصل عليها «لوبان». ومع ذلك، فإن وصول «لوبان» إلى الجولة الثانية للمرَّة الأولى يُمثِّل نقطة تحوُّل بالنسبة لليمين المتطرِّف الفرنسي: في السنوات التالية، أصبح يتمتَّع بشعبية متزايدة حتَّى انتخابات 2024، حيث كان حزب التجمع الوطني هو الحزب الأكثر تصويتًا.
وفي عام 2011، أوكلت قيادة الحزب إلى «مارين»، إبنة «جان ماري لوبان»، التي لا تزال زعيمة الحزب حتَّى اليوم مع «بارديلَّا». وبحسب ما كتبته وسائل الإعلام الفرنسية، فإن «مارين لوبان» علمت بوفاة والدها بينما كانت في رحلة العودة من "جزيرة مايوت"، المنطقة الفرنسية الخارجية التي زارتها يوم الأحد، والتي تعرَّضت في ديسمبر لمرور الإعصار الاستوائي "تشيدو".
كانت علاقات «جان ماري لوبان» مع حزبه مضطربة إلى حدٍّ ما في السَّنوات الأخيرة. وفي عام 2015، جرى إيقافه ثُمَّ طرده نهائيًا من الحزب بعد إدانته لقوله إن "غرف الغاز" هي "تفاصيل" في تاريخ الحرب العالمية الثانية. كما حُكم عليه بدفع غرامة قدرها 30 ألف يورو ونحو 10 آلاف يورو أخرى لثلاث جمعيات أصبحت أطرافًا مدنية في المحاكمة.
وبعد الطرد، تقدَّمت لوبان بشكوى ضد قرار الحزب، وأمرت محكمة "نانتير" في نوفمبر 2016 "الجبهة الوطنية" بالإبقاء على «جان ماري لوبان» كرئيس فخري، مع استبعاده كعضو. لذلك قدمت «لوبان» الإبنة استئنافًا جديدًا، لكن رُفض.
وكان الطرد من الحزب بمثابة لحظة صراع أخرى مع إبنته «مارين»، التي حاولت، مقارنة بوالدها، تبنِّي استراتيجية "تطبيع" الحزب لاستعادة الأصوات بين الناخبين الأكثر اعتدالًا.