الإيطالية نيوز، الثلاثاء 17 ديسمبر 2024 - أعلنت كييف عزمها على وقف عبور الغاز الروسي إلى أراضيها بمجرد انتهاء العقد في 31 ديسمبر 2024: تبلغ مدة خمس سنوات، وجرى توقيعة في عام 2019 بين "غازبروم" (روسيا) و"نافتوغاز" (أوكرانيا). ويرتبط هذا القرار ارتباطًا وثيقًا بالغزو الروسي في فبراير 2022، ويُعتبر بمثابة خطوة جيوسياسية واقتصادية.
الحدث الحالي: قرار أوكرانيا
إنَّ أزمة الطاقة بين روسيا وأوكرانيا لها جذور عميقة وهي جزء من تاريخ طويل من التوتُّرات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وبعد انهيار الاتِّحاد السوفييتي عام 1991، ظلَّت أوكرانيا نقطةَ عبور رئيسية لإمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا. تاريخياً، كان نحو %40 من الغاز الأوروبي يمرُّ عبر خطوط الأنابيب الأوكرانية، ما أعطى كييف مَوْقِعًا استراتيجيًا.
على مرِّ السنين، تدهورت العلاقات بين موسكو وكييف، ويرجع ذلك أساسًا إلى الأسباب التالية:
- الثورة البرتقالية (2004-2005): تقارب أوكرانيا مع الغرب والتوتُّرات مع روسيا.
- أزمة الغاز (2006، 2009): نزاعات على أسعار الغاز بين روسيا وأوكرانيا، ما أدَّى إلى انقطاع الإمدادات إلى أوروبا.
- ضم شبه جزيرة القرم (2014) والصراع في "دونباس": انهيار نهائي للعلاقات الدبلوماسية والسياسية.
- نورد ستريم 1 و2: محاولة روسيا تجاوز أوكرانيا من خلال بِناء بنية تحتية جديدة للنقل المباشر إلى أوروبا.
ويُمثِّل إعلان أوكرانيا إنهاء عبور الغاز الروسي في 31 ديسمبر 2024 تتويجًا لعملية تكثَّفت مع الحرب الرُّوسية في فبراير 2022. ويحدثُ العبور حاليًا على أساس عقد مدَّتُه خمس سنوات جرى توقيعه في عام 2019 بين شركتي "غازبروم" و"نافتوغاز"، والذي سينتهي في نهاية هذا العام. وقد أكَّدت كييف بالفِعل أنَّها لا ترغب في تجديد الاتِّفاقية لأسباب جيوسياسية وأمنية؛ على الرَّغم من أنَّه وِفقًا للبيانات الأوكرانية: ويعتمد %2-3 من الناتج المحلِّي الإجمالي لأوكرانيا على ضرائب عبور الغاز، أي ما يعادل نحو 1-1،2 مليار دولار سَنَويًا، ومع ذلك، وفقًا لكييف، فإنَّ هذه الإيرادات لا تُبرِّر المفارقة الجيوسياسية المُتمَثِّلة في التمويل غير المباشِر لدولة تخوض حربًا معهَا.
وعلى الجانب الرُّوسي، فإنَّ فقدان الطريق الأوكراني سيُجبِر شركة "غازبروم" على إعادة توجيه الإمدادات إلى البِنية التَّحتية الأخرى، مثل "تورك ستريم" وخط أنابيب طاقة "سيبيريا" إلى الصين.
وفي ضوء التصريحات الصادرة عن حكومة كييف بشأن وقف عبور الغاز الروسي، من الضروري دراسة وجهات النَّظر المختلفة للجهات الفاعلة الرئيسية المشاركة في قضية الطاقة، مع الأخذ في الاعتبار الديناميكيات الجيوسياسية والاقتصادية الحالية.وسيحدث إيلاء اهتمام خاص للمنظور الإيطالي، سواء من حيث التَّأثير المباشِر والموقع الاستراتيجي داخل السياق الأوروبي.
روسيا: أضرار اقتصادية واستراتيجية
قبل بدء الحرب في أوكرانيا عام 2022، كانت روسيا تُهيمن على سوق الغاز الأوروبي بصادرات سنوية تبلغ 155 مليار متر مكعَّب. وقد عانى هذا الرَّقم من انهيار كبير في عام 2023، بحيث انخفض إلى 50 مليار متر مكعَّب فقط، أي بانخفاض قدره %68. ويُعْزَى هذا الانكماش إلى:
- العقوبات الأوروبية بعد الغزو؛
- تدمير خطوط أنابيب الغاز الرئيسية مثل نورد ستريم 1 و2؛
- قرار الاتحاد الأوروبي بتنويع مصادر الطاقة بسرعة.
ولا يزال العبور عبر أوكرانيا يُمثِّل كمية مُتبقِّية تبلغ 12-15 مليار متر مكعَّب سنويًا. ورغم أنَّ هذا يُشكِّل جُزءًا ضئيلًا من الصَّادرات التاريخية، فإنَّ تعطيلَه سيُشكِّل خسارة مباشرة للعائدات لشركة "غازبروم"، شركة الطاقة الروسية العملاقة، التي تواجه بالفعل صعوبات اقتصادية:
- أعلنت شركة "غازبروم" عن انخفاض أرباحها بنسبة %41 في الربع الأول من عام 2023 مقارنة بالعام السابق.
- أجبر انخفاض الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي روسيا على اللُّجوء إلى الصين، من خلال خط أنابيب الغاز "قوة سيبيريا"، الذي يُقدِّم أسعارًا أقل بكثير من الأسعار الأوروبية.
- كان متوسِّط سعر الغاز الروسي في أوروبا قبل الحرب نحو 400-500 دولار لكل 1000 متر مكعَّب، بينما ينخفض في الصين إلى نحو 250-300 دولار.
العواقب بالنسبة لروسيا:
- خسارة اقتصادية كبيرة على المدى القصير.
- تأثير جيوسياسي أقل على أوروبا، التي اعتمدت تاريخيًا على الغاز الرُّوسي كمصدر رئيسي لها.
- زيادة الاعتماد الاقتصادي على الصين، وما يترتَّب على ذلك من خلل في ميزان القوى بين البلدين.
أوكرانيا: المخاطر الاقتصادية والمزايا الجيوسياسية
بالنسبة لأوكرانيا، كان عبور الغاز الروسي دائمًا مَصدرًا مُهمًّا للدخل، بحيث يصل إلى نحو 1-1،2 مليار دولار سنويًا. وتمثِّل هذه القيمة ما يقرب من %2-3 من الناتج المحلِّي الإجمالي لأوكرانيا، وهي مساهمة اقتصادية لا يُستهان بها في أوقات الحرب.
يعود سبب الانقطاع بشكل رئيسي إلى اعتبارات سياسية واستراتيجية:
- عزل روسيا: تُعتبر أوكرانيا أنَّه من غير المقبول السماح لروسيا بالتَربُّح من صادرات الطاقة بينما يجري عدوان عسكري على أراضيها.
- الانحياز إلى الغرب: القرار يُعزِّز مكانة كييف كشريك موثوق لأوروبا والولايات المتحدة.
مشاكل البنية التحتية:
أصبحت شبكة خطوط أنابيب الغاز في أوكرانيا قديمة وتضرَّرت بسبب الحرب. وستتطلَّب الصيانة استثمارات بمليارات الدولارات، وهي موارد لا تمتلكها كييف.
المخاطر الاقتصادية:
- سيتسبَّب انقطاع الخدمة في خسارة فورية للإيرادات، ما يزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي الأوكراني، المتوتِّر بالفعل بسبب الحرب.
الاتحاد الأوروبي: تحدِّيات أمن الطاقة
على مدى العامين الماضيين، نجح الاتحاد الأوروبي في خفض اعتماده على الغاز الروسي بشكل كبير، بحيث انخفض من %40 من إجمالي إمدادات ما قبل الحرب إلى %15 في عام 2023. ومع ذلك، على الرغم من هذا التخفيض الإجمالي، تواصل بعض الدول الأوروبية استيراد الغاز الروسي عبر طرق مختلفة، سواء عبر خطوط الأنابيب أو في شكل غاز طبيعي مسال:
- المجر (هنغاريا): 4،5 مليار متر مكعَّب (2023)، بشكل رئيسي عبر خط أنابيب "تورك ستريم".
- النمسا: 5،2 مليار متر مكعَّب، مع استمرار مرور الإمدادات عبر خطوط أنابيب الغاز الأوكرانية.
- سلوفاكيا: تحتفظ بحصَّة كبيرة من الواردات عبر خط أنابيب يمر عبر أوكرانيا.
- إيطاليا: استوردت في الأشهر السبعة الأولى من عام 2023 ما يقرب من 3،5 مليار متر مكعَّب من الغاز الروسي، بزيادة قدرها %50،7 مقارنة مع العام السابق، باستخدام خط أنابيب "تورك ستريم".
وفي الوقت نفسه، قامت العديد من الدول الأوروبية بزيادة وارداتها من الغاز الطبيعي المسال الروسي، وبالتالي التحايل على الاعتماد على الطرق التقليدية:
- فرنسا: تستمر محطات مثل "دونكيرك" و"مونتوار دو بريتان" في استقبال شُحُنات كبيرة من الغاز الطبيعي المسال الروسي.
- إسبانيا: زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال عبر محطتي "بلباو" و"موغاردوس".
- بلجيكا: تظل محطة "زيبروج" مركزًا رئيسيًا لنقل الغاز الطبيعي المسال الروسي إلى الأسواق الأوروبية الأخرى.
وعلى الرَّغم من نجاح التنويع، فإنَّ الاعتماد المتبقِّي على الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب أو الغاز الطبيعي المسال لا يزال يُعرِّض أمن الطاقة في أوروبا للخطر. ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية، غَطَّى الغاز الطبيعي المسال نحو %36 من إجمالي الواردات الأوروبية في عام 2023، ولكن بتكلفة أعلى بكثير من تكلفة الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب.
إن الانقطاع النهائي للمرور الأوكراني سيُجبِر الدول الأكثر عُرضةً للخطر (مثل المجر والنمسا وسلوفاكيا) على إيجاد حلول بديلة بشكل عاجل، ما يزيد من خطر التوتُّرات الدَّاخلية والضَّغط على أسعار الطاقة على المدى القصير.
سيناريوهات التوقُّعات
نظرًا لتعقيد قضية الطاقة قيد النَّظر، فقد جرى تطوير سيناريوهين محتمَلين للتنبُّؤ، يهدفان إلى تحديد التطورات المستقبلية والتداعيات الجيوسياسية والاقتصادية على الجهات الفاعلة المعنية.
أفضل سيناريو للحالة
السياق: تعوِّض أوروبا انقطاع نقل الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية من خلال التوسُّع السريع في البنية التحتية للغاز الطبيعي المسال وتعزيز الإمدادات عبر النرويج والجزائر وأذربيجان.
الفرضية الرئيسية: تَسارُع التحوُّل في مجال الطاقة والاستثمارات في مصادر الطاقة المتجدِّدة يحُدُّ من تأثير الأزمة.
- تمكنت أوكرانيا من تعزيز موقعها الجيوسياسي من دون المساس بشكل خطير بالاقتصاد.
- تخسر روسيا طريق عبور مهم، ما يُقلِّل من قدرتها على الضغط على الاتحاد الأوروبي.
- تكثيف الشراكات مع الولايات المتحدة الأمريكية وموَرِّدي الغاز الطبيعي المسال (قطر والجزائر).
- زيادة سعة المحطات الأوروبية بحلول 2025-2026.
ويُمثِّل وَقْفُ عبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا خطوة حاسمة لكييف في حربها الجيوسياسية مع موسكو. وفي حين ستواجه روسيا خسارة اقتصادية واستراتيجية كبيرة، فإنَّ أوكرانيا تضحِّي بعائداتها المباشرة في مقابل تعزيز علاقاتها السياسية مع الغرب. وبالنسبة لأوروبا، فإنَّ النجاح في تخفيف العواقب المترتِّبة على هذا القرار سوف يعتمد على قدرتها على تعزيز قدرتها على الصمود في مجال الطاقة من خلال التنويع والتجديد.
ويُعتبر وقف عبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا حدثًا رمزيًا وعمليًا. فهو يُمثِّل نهاية حقبة من اعتماد أوروبا في مجال الطاقة على روسيا وتحولُّاً كبيرًا في الجغرافيا السياسية العالمية للطاقة. وسوف تضطرُّ أوروبا إلى التعجيل بتحوُّل الطاقة وتعزيز البنية التحتية البديلة، في حين ستخسر روسيا نفوذها السياسي والاقتصادي المهم. وبالنسبة لأوكرانيا فإنَّ المخاطر الاقتصادية واضحة، ولكن الميزة الجيوسياسية قد تكون لها الغَلَبة في ما يتَّصل بتكاملها مع الغرب.
سمح موقف "العبور" لأوكرانيا بالحصول على عائدات اقتصادية مهمة ونفوذ جيوسياسي، في حين ولَّد احتكاكًا مستمرًّا مع موسكو، التي رأت في أوكرانيا ليس فقط "تكلفة" ولكن أيضًا نقطة ضعف استراتيجية. وأظهرت أزمات الغاز في عامي 2006 و2009، الناجمة عن النزاعات حول الأسعار والإمدادات، مدى تعرُّض أوروبا للمخاطر السياسية ومخاطر البنية التحتية المرتبطة بالمسار الأوكراني.
وسوف يحدد المستقبل مدى قدرة الجهات الفاعلة الفردية على توقع التأثيرات المُترتِّبة على هذا القرار والتخفيف من آثارها: فالمساحة المتاحة لأوروبا للمناورة محدودة، ولكن بالاستعانة بالاستراتيجيات الصحيحة يمكنها تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لتعزيز استقلالها في مجال الطاقة.