وفي المُقدِّمة، كان النعش المغلق مغطًّى بعلم الثوَّار باللون الأخضر والأبيض والأسود وخلفه نحو ثلاثة آلاف شخص يرددون شعارات مثل تلك التي كانت تُردَّد الثورات العربية عام 2011: «الشعب يريد إسقاط النظام» تحولت إلى «الشعب يريد دماء الأسد» وتعني: يجب أن يُحكَم على الأسد بالإعدام.
وفيما يلي قائمة بالشعارات الأخرى التي تم سماعها في المسيرة: «الحرية إلى الأبد، سواء أحببت الأسد أم لا»؛ «مازن دمك لن يُنسى»؛ «لا شيء يدوم إلى الأبد، لا شيء يدوم إلى الأبد، عاشت سوريا ويسقط الأسد»؛ «الله أكبر»...
«مازن حمادة»، من مواليد 1977، كان يُعتبَر رمزًا لدى الناشطين السوريين. وكان قد اعتُقل مرَّتين في السَّنوات الأولى للثورة السورية التي بدأت عام 2011. والثاني بسبب محاولته تهريب 55 صندوقًا من حليب الأطفال المجفَّف إلى أحد أحياء دمشق المحاصَرة من قبل قوات النِّظام. وقد جرى نقلُه إلى سجن "صيدنايا" الذي أصبح رمزًا لنظام «الأسد» القمعي، وجرى تعذيبه.
بعد إطلاق سراحه هجر سوريا، واختار هولندا ملجأً آمنًا له، حيث بدأ يتحدَّث عن كيفية محاولة الأسديين قمع الاحتجاجات بأساليب سادية. بدأت القصة من كل ما حدث له. أثناء التحقيق الأول كسروا أضلاعه بالقفز فوقه وهو ملقى على الأرض لأنه رفض الاعتراف بحيازته سلاحًا وأجاب بأنَّه يكره السِّلاح. ثم كانوا يركلونه ويضربونه، دائمًا وهو على الأرض.
وفي جلسة التعذيب الثانية، قال «مازن»، إنَّهم جرَّدوه من ملابسه بالكامل وعلَّقوه لساعات في شبكة النافذة من يديه مُكبَّلين من دون أن تلمس قدميه الأرض، وقد تسبَّب هذا الوضع بالفعل في ألم وصفه بأنَّه لا يطاق، بالأخص في المفاصل. ثم ضربوه واغتصبوه بعصا، وشدَّدوا مشبكًا معدنيًا حول قضيبه، مما سبَّب له أضرارًا لا يُمكن إصلاحُها.
وكان «حمادة» قد قرَّر الحديث عن عمليات التَّعذيب المُهينة هذه أمام صحافيين أجانب وأمام كاميرات التلفزيون لأنَّه رأى أن شهادته مُهمَّة وستثير غضبًا ضد عصابة «الأسد» الإجرامية. الوجه الغائر والهالات السوداء تحت عينيه والتجارب المباشرة هي التي جعلت طريقته في سرد حملة القمع التي يشنها النظام السوري، والتي لم يعرف عنها الكثير من الناس في الشرق الأوسط، أو يعرف عنها ولا يستطيعون التطرق لها في نقاشاتهم من شدة الخوف وخشية الجز بهم وتدميرهم في غياهب المعتقلات اللا أدمية. لقد زار مكاتب تحرير الصحف والبرامج التلفزيونية وصنع إسمًا لنفسه. وكتبت صحيفة "واشنطن بوست" أنَّه بفضله "لم يعد بإمكان العالم أن يقول إنه لا يعرف".
على مرِّ السِّنين، أُصيب «حمادة» بالاكتئاب، حيث تجادل مع الحكومة الهولندية لأنَّه اعتقد أنَّه يحقُّ له الحصول على مبلغ شهري من المال، ولكن بدلًا من ذلك جرى طرده من منزله لأنه لم يعد قادرًا على دفع الإيجار. كما تشاجر مع نشطاء أخرين. وقال إنَّه شعر بالحَزَن لأنَّ شهاداته لم تؤخَد بعين الاعتبار، وبجدِّية.
وفي عام 2020، عندما أعلن «الأسد» عفواً عامًا، اقتنع «حمادة» بأنَّ أفضل ما يُمكن فعله هو العودة إلى سوريا، غير مُنصِتٍ لنصيحة جميع معارفه الذين حذَّروه من أن ذلك سيكون أسوأ من الانتحار. النظام السوري، الذي كان يعرف القيمة الرمزية لِـ «مازن حمادة» في أوروبا، منحه تأشيرة دخول إلى سوريا في سفارة برلين مع وَعْدٍ بالسلامة، وضمن أنه مقابل عودته سيطلق سراح سجناء أخرين. ولكن، على عكس الوعود، جرى اعتقال «حمادة» فور هبوطه في مطار دمشق واختفى.
وعُثر على جثَّته، الأحد، في مشرحة المشفى العسكري في مدينة "حرستا"، بريف "دمشق"، وعليها آثار تعذيب، إلى جانب جُثَث أخرى. وفي الساعات الأخيرة من عُمر النظام الإجرامي، قام أحد أفراد جهاز أمن «الأسد» بتعذيبه مرة أخرى وقتله قبل أن يَهرب.
كان موكب تشييع «مازن حمادة» وسط دمشق لحظة انتقام لنشطاء الساعة الأولى للثورة السورية، الذين كانوا يهدفون إلى نظام التعددية الحزبية بدلاً من حزب البعث الواحد (حزب الأسد) وحيث وكانت هناك من بين أمور أخرى أيضًا حرية الصحافة وحرية إنشاء النقابات العمالية.
في البداية، في سنة 2011، اعتقد الناشطون أن المظاهرات غير المسلحة ستكون كافية، كما حدث في مصر وتونس، لإسقاط النظام. وسرعان ما استهدفهم الجيش بعنف: لكي يبرِّر زعم الأسد دائماً وجود فئتين من المعارضين، وأخطرها التي تشكلها مجموعة من الإسلاميين الإرهابيين، لذا قام بقمع الناشطين بحجة أنهم متطرفون إسلاميون خطيرون، وزج بهم في غياهب السجون، حيث يتعرضون للتعذيب وللتدمير يوميًا.