وأظهر الفيديو، بين أمور أخرى، مكتب رئيس المخابرات السورية لِـ «بشار الأسد»، «حسام لوقا»، الذي جرى نهبه، والذي كان على مكتبه وثائق مختلفة مكتوبة باللغة العربية بما في ذلك واحدة تتعلَّق بإيطاليا: يوم السبت الماضي، أشار «سهيل الغازي»، وهو صحفي محقق سوري يكرِّس نفسه في كثير من الأحيان لقضايا الاستخبارات، كيف جرت الإشارة بشكل صريح في جزء من تلك الوثيقة إلى مكالمة هاتفية تلقَّاها «لوقا» من «جوفانِّي كارافيلِّي» (Giovanni Caravelli)، مدير "وكالة المعلومات والأمن الخارجية" (AISE)، أي من أسرار الخارجية الإيطالية.
تحتوي الوثيقة، التي جرت ترجمتها بشكل تقريبي إلى حد ما على أساس بعض لقطات الفيديو، على "مذكرة" مؤرخة في 5 ديسمبر. كان «لوقا» ينوي من خلالها تقديم معلومات إلى «الأسد» حول التطوُّر الفوضوي للاشتباكات المستمرَّة في شمال غرب سوريا. هناك جزء أولي طويل يتحدَّث فيه «لوقا» عن محادثة هاتفية مع رئيس المخابرات الأردنية، ثم هناك سطران نهائيان يشيران على وجه التحديد إلى «كارافيلِّي». الترجمة هي تقريبًا كما يلي: “لقد تلقَّيتُ أيضًا، بناءً على طلبِك، مكالمةً هاتفيةً من الجنرال «جوفانِّي كارافيلِّي»، رئيس المخابرات الإيطالية، الذي أكَّد دعم بلاده لسوريا (لنظام الإجرامي بقيادة فعلية من «بشار الأسد» الدكتاتور، إضافة من محرر المقال)، وأوضح أَّن الدَّعم الذي تقدمه روسيا لسوريا لا يمكن نسيانه» أو "لا يمكن التغاضي عنه.”
وظلَّ المعنى الدَّقيق لهذه الرِّسالة غير واضح، وكانت الإشارة إلى روسيا غامضة بشكل خاص. وفي يوم الأحد، أكد قادة المخابرات الإيطالية، بشكل غير رسمي، حدوث تلك المكالمة الهاتفية، لكنَّهم نفوا أنْ يكون أساس تلك المحادثة عَرْضًا فِعْلِيًا للمساعدة من إيطاليا لنظام الأسد المترنِّح نحو الإنهيار التام.
وفي يوم الإثنين فهمنا شيئًا أكثر: أجرى «كارافيلِّي» تلك المكالمة الهاتفية بالاتِّفاق مع وكيل رئيس الوزراء «ألفريدو مانتوفانو» (Alfredo Mantovano)، الرئيس السياسي للأجهزة السرِّية، ما يُسمى بِـ "السُّلطة المفوِّضَة". وكانت رئيسة الحكومة الإيطالية، «جورجا ميلوني» (Giorgia Meloni)، على علم أيضًا بالمكالمة الهاتفية. وكان الهدف، بحسب مصادر تقرير "وكالة الأمن والمعلومات الخارجية"، هو الحصول على تطمينات بشأن سلامة الإيطاليين الموجودين في سوريا والطاقم الدبلوماسي العامل في البلاد.
علاوة على ذلك، أرادت المخابرات الإيطالية طلب ضمانات بشأن الطائفة المسيحية الموجودة في سوريا، خاصة بعد أن ضرب الجيش الروسي بصاروخ، في محاولة للدفاع عن «نظام الأسد»، الأرض المحيطة بكلية الأرض المقدسة للرهبان الفرنسيسكان في حلب، في الأول من ديسمبر. وينبغي قراءة الإشارة إلى الروس، الذين كانوا الحليف الرئيسي لِـ «الأسد»، بالأخص بعد الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، بهذا المعنى.
إنَّ معرفة المحتوى الدقيق للمحادثة بين «كارافيلِّي» و«لوقا» أمر مستحيل في الواقع، ولكن لا يزال من الممكن قول بعض الأشياء عن المكالمة الهاتفية. ومن الطبيعي أن يكون لدى المخابرات الإيطالية، مثلها مثل جميع الدول الرئيسية في العالم، اتصالات وتبادل معلومات مع الجميع، حتى مع الأنظمة الأكثر دموية. في الواقع، وبهذا المعنى، يكون عمل الأجهزة السرية أكثر فائدة عند التعامل مع الحكومات أو الديكتاتوريات المعادية، والتي لا يمكن أن تكون العلاقات الدبلوماسية والسياسية واضحة معها أو مكشوفة، على عكس ما يفعلونه مع إسرائيل. وهذا لا يعني أن إيطاليا كانت تساعد بالضرورة «الأسد» في المقاومة ضد تقدُّم القوات المناهضة لنظامه التي أطاحت به (أولئك الذين يُطلق عليهم "الثائرون").
ولذلك، فإنَّ الإشارة التي أدلى بها «كارافيلِّي» على ما يبدو خلال المكالمة الهاتفية بشأن الدعم الإيطالي لسوريا الدكتاتور الهتلري «بشار الأسد» يجب تفسيرها بحذر. لدى إيطاليا مجموعة صغيرة إلى حد ما من الأمنيين في سوريا، لا يزيدون عن عشرة، بحسب ما هو معلوم، ومن الصعب أن تكون قادرة على تقديم الدعم المباشر أو اللوجستي أو العسكري. ولكن لا يمكننا أن نستبعد أن «كارافيلِّي»، في العلاقة الطبيعية بين رؤساء الأجهزة الأمنية، استخدم ببساطة الأدوات البلاغية النموذجية للاستخبارات: الوعد، والتملُّق. باختصار، من اجل الحفاظ على قدر معيَّن من الغموض في الاقتراح الكاذب.
هناك بعض الاختيارات السياسية المحدَّدة، وليس لأسباب استخباراتية، التي رُبَّما دفعت كارافيلِّي إلى إجراء تلك المكالمة الهاتفية. باختصار، إذا كان هذا الاتِّصال بين «كارافيلِّي» و«لوقا» يعكس محاولة إيطاليا إقامة علاقات دبلوماسية أقل عدائية مع «الأسد»، فإن «كارافيلِّي» لم يفعل شيئًا أكثر من متابعة التوجُّه الذي قرَّرت الحكومة الإيطالية بالفعل اتباعه منذ أشهر: أي أن تضع نفسها كزعيم للدول الغربية التي تعتزم تعزيز التطبيع الكامل مع نظم «بشار الأسد»، وتفضِّل إعادة فتح الحوار وإعادة التأهيل التدريجي للنظام الدموي الذي وافق كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على فرض عقوبات عليه في عام 2011.
وليس من قبيل الصُّدفة أنَّ إيطاليا كانت الدولة الوحيدة في مجموعة السبع والدولة الأوروبية الكبيرة الوحيدة التي أعادت فتح سفارتها في دمشق بكامل طاقتها، حيث قامت بتثبيت دبلوماسيها «استيفانو رافانيان» (Stefano Ravagnan) بشكل دائم. علاوة على ذلك، استقرَّ في دمشق في 20 نوفمبر الماضي، وذلك أيضًا بفضل العمل التحضيري الذي قامت به "وكالة المعلومات والأمن الخارجية" بتنسيق مع المخابرات السورية. لذا، علينا أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت المعلومات التي جمعتها المخابرات الإيطالية حول تطوُّر الوضع في سوريا غير موثوقة، بالنَّظر إلى أنَّ إيطاليا في الواقع أعادت بشكل أو بأخر علاقاتها الدبلوماسية مع النظام السوري قبل أسبوعين من هروب «الأسد». ومن المرجَّح أن الأجهزة الاستخباراتية الإيطالية السرِّية أُخذت على حين غرَّة، مثل تلك الموجودة في الدول الغربية الأخرى.
لكن هذا الانفراج الدبلوماسي من جانب حكومة «ميلوني» كان مستمرًّا منذ أشهر، ولم يكن بفضل اقتراحات استخباراتية، بل لهدفين كانت الحكومة تسعى إليهما، واللذان تلاشيا لاحقًا بسبب سقوط «الأسد»: فمن ناحية، كانت إيطاليا، نيابة عن الاتحاد الأوروبي، تروِّج لخطة عودة اللاجئين السوريين إلى سوريا، معظمهم في لبنان، ومن ناحية أخرى تأكيد تنافسها من أجل فرض نفسها إلى جانب فرنسا للظفر ببعض الأطماع في تلك المنطقة القوية تاريخياً.
باختصار، صحيح أن حكومة «ميلوني» استخدمت المعلومات التي جمعتها الأجهزة السرِّية في المنطقة، لكنَّها استخدمتها بعد ذلك لإعطاء مضمون لسلوكها الدبلوماسي. وبعد كل شيء، تقوم "وكالة المعلومات والأمن الخارجية" بجمع المعلومات حول ما يحدث في سوريا منذ سنوات، سواء لاحتواء التهديد الإرهابي، أو محاولة منع أنشطة المرتزقة السوريين الذين ينشطون أيضًا في شمال إفريقيا، وتحديدًا في ليبيا.
خلال عام 2023 كثَّف «الأسد» محاولاته لإعادة تأهيل نفسه في نظر الدول الغربية. وفي شهر فبراير، وبمناسبة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا بشكل رئيسي، ومع حُجَّة تقديم الإغاثة الإنسانية، انتهز الفرصة لإعادة فتح بعض القنوات الدبلوماسية التي كانت قد انقطعت لبعض الوقت مع تركيا نفسها ومع الدول الأوروبية الأخرى التي عرضت المساعدة، مستعيدًا بذلك، بين أمور أخرى، العلاقات الثنائية أولاً مع المملكة العربية السعودية، ثم مع الإمارات العربية المتحدة. علاوة على ذلك، قدَّمت المخابرات السورية معلومات مفيدة للمخابرات الإيطالية والأمريكية لمنع أو احتواء الهجمات على الوحدات الأمريكية المنتشرة في شرق البلاد، على طول الحدود مع العراق. وبالنسبة لإيطاليا، التي لديها أكثر من ألف جندي يشاركون في مهمتين لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في العراق، فإن بعض المعلومات التي تلقَّتها في سياق هذه المحادثات كانت لا تُقدَّر بثمن: لكي يتمتع برضى الاتحاد الأوروبي والأمريكان قام الأسد بدور "المُخبِر" أو "العميل السرِّي": كل هذه الخدمات، أو بالأحرى بهذه الطاعة والخيانة، ساهمت في إقناع الحكومة بأن الوقت قد حان لتعزيز الانفراج مع «الأسد»، وكذلك في البيئات المؤسسية الأوروبية بعد تأكدوا من ولائه لهم.