ليس هناك الكثير من المفاجأة في الصحف الفرنسية الرئيسية بشأن الأزمة التي نشأت في الأيام الأخيرة. “هل يُصَدِّق ذلك حقًّا؟”، تتساءل "لوموند" على سبيل المثال، في إشارة إلى «بارنييه» واحتمال تمرير قانون الموازنة من دون مشاكل. ثم يبدأ مقال في «ليبراسيون» بتساؤل: «كيف نتفاجأ بأنَّ كل هذا سينتهي، باستثناء أي مفاجآت كبيرة، بحجب الثِّقة؟». وفي مُقَدِّمة الوضع السياسي الحالي، يُحدِّد الكثيرون ما تصفه بعض الصحف بأنه "خطأ سياسي أصيل": أَيْ أنَّ حكومة «بارنييه» هي نتاج لِـ "التضليل الديمقراطي".
ولا تعكس الحكومة الحالية نتيجة الانتخابات المُبكِّرة التي أُجريت في يوليو الماضي على إثر الأزمة التي أثارها الرئيس «إيمانويل ماكرون» (Emmanuel Macron) بعد نتائج الانتخابات الأوروبية. فاز في انتخابات يوليو يسار الجبهة الشعبية الجديدة التي طلبت على الفور من الرئيس احترام أصوات المواطنين وتعيين رئيس وزراء جديد كان جزءًا من تلك المجموعة. وقال «ماكرون» إنَّه يُعارض ذلك بشدَّة: في الواقع، كان الرئيس يتحرَّك نحو اليمين لبعض الوقت، ليستبدل الوزراء الفنِّيين القادمين في الغالب من المجتمع المدني، والَّذين عيَّنهم بنفسه بعد الحملة الرئاسية لعام 2016، بشخصيات سياسية قادمة من اليمين أو قريبةً منه. وفي النهاية اختار «بارنييه» الذي شكَّل حكومة يدعمها ائتلاف أَقلِّية مُكوَّن من الحزبين اللذين لم يفزا في الانتخابات: حزب «إيمانويل ماكرون»، وحزب النَّهضة، والحزب الجمهوري، الذي ينتمي إليه «بارنييه» نفسه.
واعتمد بقاء حكومة الأقلِّية هذه على دعم اليمين المتطرِّف الذي أوضحت زعيمته «مارين لوبان» على الفور كيف ستستفيد من دورها غير المسبوق داخل "الجمعية الوطنية" لزيادة الضَّغط على الحكومة الجديدة وتعزيز التدابير التي تحظى بالتَّقدير إذا لم يحدث الترويج لها بشكل صريح من قبل اليمين المتطرِّف.
تضيف صحيفة "ليبراسيون" أنَّه بعد تعيينه، كان خطأ رئيس الوزراء هو تعزيز توازن القِوى سياسيًا لصالح اليمين المتطرِّف، والاستمرار فعليًا في المسار الذي سلكه «ماكرون» فعلًا: مبدأ التواصل مع اليمين فقط، وليس على الأقل مع ذلك الجزء من اليسار الذي يُعرَّف غالبًا بأنه "حكومي": هو جزء من الجبهة الشعبية الجديدة، ولكنه يتمتَّع بمواقف أكثر اعتدالاً وتوجُّهًا نحو التسوية من مواقف حزب «جان لوك ميلينشون» (Jean-Luc Mélenchon) "فرنسا الأبية".
كل هذا ظهر بوضوح في موضوع "قانون الموازنة". منذ البداية، وبين جميع المحاوِرين المختلفين، وضع «بارنييه» "التجمُّع الوطني" في المقام الأوَّل: اختار التفاوض مع "التجمُّع الوطني"، وقدَّم تنازلات عديدة ومُكلِّفة لـ "التجمُّع الوطني" بشأن قانون الموازنة، ليَصبح فعليًا رهينةً له. ومع ذلك، واصلت "المجموعة الوطنية" رفع المخاطر، وحصلت يومًا على إلغاء الضرائب على الكهرباء ويومًا أخر على تخفيض سداد بعض الأدوية، من دون الاستسلام أبدًا. وفي النهاية، لم تكن هذه التنازلات كافية. وربَّما كان هدف "التجمُّع الوطني" هدفا أخر، كما تشير الصحف الفرنسية: وهو الحصول على استقالة «إيمانويل ماكرون» من رئاسة الجمهورية الفرنسية.
إذا وقع التصويت على "سحب الثقة"، فسوف تسقط حكومة «بارنييه» وستنشأ أزمة سياسية يُصبح فيها الرئيس «ماكرون» (الذي سيظل في منصبه حتَّى لو سقطت الحكومة) هو بطل الرواية مرَّة أخرى. ومع ذلك، ستكون هذه بداية فترة من الفوضى وعدم اليقين، كما تشير "بوليتيكو"، والتي قد تستمر لأسابيع وحتَّى أشهر.
وبين الأدوات غير الدستورية المتاحة لدى «ماكرون» لحل هذه المشكلة: حل "مجلس الأمة" والدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة، وهو ما لا يستطيع فعله. ووفقًا للدستور الفرنسي، لا يجوز حل "الجمعية الوطنية" إلَّا بعد مرور 12 شهرا على آخر حل. ونظرًا لحل يوليو الماضي، فلا يمكن بالتالي حل "الجمعية الوطنية" الحالية قبل يوليو من العام المقبل، ولن تُجرى أي انتخابات تشريعية جديدة قبل ذلك التاريخ.
ويمكن للرئيس بعد ذلك أن يقرِّر تعيين رئيس وزراء جديد وحكومة جديدة، ولكن كما اقترحت «مارين لوبان» (Marine Le Pen) في الساعات القليلة الماضية أن تظل الحكومة حكومة أقلِّية". وبغض النظر عن تقييمات «لوبان»، فإنَّ تعيين رئيس وزراء جديد قد لا يكون بهذه البساطة.
تنقسم "الجمعية الوطنية" الفرنسية إلى ثلاث كتل سياسية متساوية تقريبًا: "الوسطيون" الذين يتزعَّمهم «ماكرون»، وحزب "التجمُّع الوطني" اليميني المتطرف، و"الائتلاف اليساري"، وهم ثلاث مجموعات متعارضة ترفض العمل معًا، ما يعني أن أي حكومة جديدة ستواجه الصعوبات نفسها التي تواجهها الحكومة الحالية وقد تسقط خلال أيام قليلة.
وفي حال سقوط حكومة «بارنييه» يمكن لـ «ماكرون» تعيين رئيس وزراء أخر. وهذه الفرضية الأكثر ترجيحاً، والأسماء متداولة بالفعل في الصحف: بينها وزير الدفاع «سيباستيان ليكورنو» (Sébastien Lecornu). يمكنه ترشيح شخصية يمينية، تشبه إلى حد كبير «بارنييه»، والتي ستحظى بدعم الوسطيين والجمهوريين، والتي يمكن أن تحاول، مثل «بارنييه» مرَّة أخرى، تملُّق «لوبان» من خلال تقديم تنازلات جديدة لها تدريجيًا للبقاء في مكانتها وتعزيز قوتها. وذلك على ضوء الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى عام 2027، عندما تنتهي ولاية «ماكرون».