هل الأزمة الاقتصادية في ألمانيا يجعل من برلين تشكِّل خطرًا على الاتحاد الأوروبي؟ - الإيطالية نيوز
Facebook social icon TikTok social icon Twitter X social icon Instagram social icon WhatsApp social icon Telegram social icon YouTube social icon

آخر الأخبار

الخميس، 14 نوفمبر 2024

هل الأزمة الاقتصادية في ألمانيا يجعل من برلين تشكِّل خطرًا على الاتحاد الأوروبي؟

الإيطالية نيوز، الخميس 14 نوفمبر 2024 - إنَّ الأزمة الحكومية في ألمانيا، والتي قد تؤدِّي إلى انتخابات مبكِّرة في أوائل العام المُقبل، لها علاقة كبيرة بالأفكار المتباينة للأحزاب الحاكمة حول كيفية التعامل مع الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد في السنوات الأخيرة. ونشأت الأزمة عندما أقال المستشار الديمقراطي الاشتراكي «أولاف شولتز» (Olaf Scholz) وزير ماليته «كريستيان ليندنر» (Christian Lindner)، زعيم الليبراليين وأحد الشركاء في الائتلاف الحاكم: كان السَّبب الرئيسي للإقالة هو على وجه التَّحديد استحالة الاتِّفاق على كيفية التعامل مع الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعيشها البلاد، حسب ما قاله مختصون في الشأن الاقتصادي لموقع "إل بوست" الإيطالي.


وبينما تَمتَّع اقتصاد بقيَّة الدول المتقدِّمة بعد الجائحة بزخم مُعيَّن، فإنَّ الاقتصاد الألماني بالكاد استعاد ما فقده في عام 2020، ممَّا يُظهر أزمة واضحة في نموذج التنمية الذي جعل من ألمانيا على مدى الثلاثين عامًا الماضية ما يُسمى بـ "قاطرة أوروبا"، أي الدولة التي أعطت زخمًا للاقتصاد الأوروبي برمَّته: بل على العكس من ذلك، فإنَّنا نسمع اليوم أكثر فأكثر عن هذه الدولة باعتبارها "ثِقْلُ الثِّقل" بالنسبة للاتِّحاد الأوروبي، الدولة التي تُقدِّم أسوأ أداء على الإطلاق والتي تُمثِّل خطرًا على المنطقة بأكملها.


وجرى الحديث عن الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد الألماني منذ فترة، وهو موضوع يُقلق جميع الاقتصاديين تقريبًا، لأنَّه بالإضافة إلى كونها واحدة من أكثر الدول نفوذًا في الاتحاد الأوروبي، فإنَّ ألمانيا هي أيضًا الاقتصاد الأوروبي الأوَّل من حيث حجم النَّاتج المحلِّي الإجمالي والثالث في العالم، مع صناعة متكاملة للغاية مع تلك الموجودة في البلدان الأخرى: يأتي ما يقرب من ثُلثي الواردات الألمانية من الدول الأوروبية، ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي الألماني ما يقرب من ربع نظيره في الاتحاد الأوروبي. ويخاطر الرُّكود الألماني بعواقب وخيمة على بقيَّة دول الاتحاد الأوروبي أيضًا.


لم يُظهر الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وهو المؤشِّر الذي يلخِّص الاتِّجاه العام للاقتصاد بشكل أكثر فعالية، نموًّا كبيرًا منذ عام 2021، وفي الواقع سينخفض ​​في عام 2024 للسنة الثانية على التوالي. وفي العام ونصف العام الماضيين، انخفضت استثمارات الشركة بنسبة 12 في المائة، وعادت إلى مستويات الفترة الأولى من الوباء، عندما عرقلت حالة الشكوك أي قرار استثماري. كما تتناقص الاستثمارات من الخارج أيضًا، مما يشير إلى عدم وجود اهتمام معيَّن بألمانيا كبلد لإنشاء شركات جديدة وممارسة الأعمال التجارية.


اتجاه الناتج المحلي الإجمالي الألماني على مر السنين



مقارنة بالرُّبع الأخير من عام 2019، أي قبل تَفَشِّي الوباء مباشرةً، نما الاقتصاد الألماني بمقدار بضعة أعشار نقطة فقط: على العكس من ذلك، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة بنسبة 10 في المائة، وفي إيطاليا بنسبة 6 في المائة تقريبًا، وفي فرنسا بنحو 4. وبين الدول المتقدِّمة، ألمانيا هي الدولة الوحيدة التي تعاني من الرُّكود.


وقالت الخبيرة الاقتصادية الألمانية «إيزابيل شنابل» (Isabel Schnabel)، عضو اللَّجنة التوجيهية للمصرف المركزي الأوروبي، مؤخَّرًا إنَّ نموَّ اقتصاد دول منطقة اليورو، إذا استثنينا ألمانيا، أثبت منذ عام 2021 "صموده ومرونته غير العاديين" وأسرع مقارنة مع العديد من الاقتصادات الكبرى: لكن الحديث عن اقتصاد منطقة اليورو من دون ألمانيا يشبه الحديث عن الاقتصاد الأمريكي من دون "كاليفورنيا" و"تكساس". وهو ما يعني أنَّ الأزمة الألمانية لها أسباب داخلية، تمنعها من مواجهة سياق اقتصادي ودولي متزايد التعقيد مثل الدول الأخرى. ويرتبط هذا قبل كل شيء بعدم قدرة الحكومات على إنفاق واستثمار الأموال في تنمية الاقتصاد، وبالأسباب الثقافية التي تجعل الدِقَّة المحاسبية هي القيمة الأولى التي يجب اتِّباعها من أجل سياسة اقتصادية صحيحة.


مثل أي بلد أخر، تعرضت ألمانيا أولَّاً للوباء، وبالتَّالي للتوقُّف الكامل لأنشطة الإنتاج والاستهلاك، ثُمَّ لكل التداعيات الناتجة عن: غَلْقُ الموانئ والأزمة التجارية، وما يترتَّب على ذلك من انهيار سلاسل الإنتاج العالمية بسبب استحالة نقل المواد الخام والمنتجات شبه المصنَّعة، ونقص المكوِّنات الأساسية مثل رقائق البطاطس، وما إلى ذلك. وكان لكل هذا عواقب وخيمة على دولة صناعية ومُصدِّرة مثل ألمانيا، التي اعتمدت على التجارة الخارجية لبيع سلعها ولكن أيضا لشراء كل ما تحتاجه لإنتاجها.


ثُمَّ تفاقم كل شيء بسبب الحرب في أوكرانيا، التي بدأت في عام 2022، والتي تسبَّبت في أزمة طاقة شديدة الخطورة لم نشهدها منذ الثمانينيات. تتكوَّن الصناعة الألمانية في معظمها ممَّا يُسمَّى بِـ  "الصِّناعة الثَّقيلة" ومصانع السيارات ومصانع الصُّلب ومصانع الكيماويات ومصانع الورق: وبالتالي فهي قطاعات "تستهلك الكثير من الطاقة"، بمعنى أنَّها تحتاج إلى قدر كبير من الطاقة لإنتاجها.


وتمثِّل الصِّناعة كثيفة الاستهلاك للطاقة %16 من إجمالي إنتاج الصناعة الوطنية، %مقابل 80 من استهلاك الطاقة على المستوى الصناعي. بالنسبة لهذه القطاعات، كان لانتهاء توريد الغاز الرخيص من روسيا، بعد غزو أوكرانيا، تأثير كبير على التكاليف، بل وفي بعض الحالات فضَّلت الشركات التوقُّف بدلًا من الإنتاج ودفع الفواتير المرتفعة:  مثلًا، تمامًا كما حدث في إيطاليا عام 2018.


وحتَّى اليوم، لم تستعد الصناعة الألمانية المستويات التي كانت عليها قبل الوباء، بل إنَّها مستمرَّة في الانكماش. على سبيل المثال،  دخلت شركات مهمَّة جدًا في أزمة: أعلنت "فولكس فاغن"، أهم شركة سيَّارات أوروبية، إغلاق بعض مصانعها لأوَّل مرَّة في تاريخها؛ وتقوم شركة "تيسنكروب" لصناعة الصُّلب، التي يعود تاريخها لأكثر من 200 عام، وتُعَدُّ من رموز القوة الصناعية الألمانية، بتسريح آلاف الموظفين؛ بينما تحاول شركة "كونْتِنينتال" لصناعة الإطارات جمع الأموال عن طريق بيع قسم منتجات السيارات التابع لها؛ ثُمَّ حوض بناء السفن الشهير "ماير ويرفت"، الذي يعمل أيضًا منذ أكثر من 200 عام، نجا بصعوبة من الإفلاس فقط بفضل خُطَّة الإنقاذ العامَّة.




وفي ألمانيا كانت أزمة الطاقة آنذاك بمثابة "قناة نقل مزدوَجة" إلى الاقتصاد بالكامل. الأولى ترتبط بكون البلاد كانت أكثر اعتمادًا على روسيا من الدول الأوروبية الأخرى، ولكن مع قرار الاتحاد الأوروبي وقف شراء الغاز الروسي كعقوبة اقتصادية، برزت تداعيات أكثر خطورة على الاقتصاد الألماني: وليس من قبيل الصدفة أنَّ ألمانيا كانت واحدة من أكثر الدول تردُّدًا في فرض العقوبات. والثاني يعتمد على نموذج الطاقة الألماني، الذي لا يزال يعتمد إلى حد كبير على "الوقود الأحفوري" و"الغاز"، وقليل نسبيًا على المصادر المتجدِّدة.


وعلى إثر ذلك، سلَّطت أزمة الطاقة الضَّوء على سلسلة من نقاط الضُّعف البنيوية في الأسُس الاقتصادية للبلاد، والتي كانت في الحقيقة معروفة لبعض الوقت والتي كافحت الحكومة الائتلافية التي تشكَّلت بعد نهاية الفترة السياسية لِـ «أنجيلا ميركل» لتصحيحها.


ومن المؤكَّد أنَّ القضية الأكثر أهمِّية وحيوية هي قضية تحوُّل الطاقة. إنَّ النِّظام الألماني غير مناسِب لتلبية احتياجات الصناعة من الطاقة على نحو مُستدام: فحتَّى قبل الحرب في أوكرانيا، كانت الطاقة الألمانية بين أكثر مصادر الطاقة تكلفةً في الاقتصادات المتقدِّمة. وبين القضايا الأكثر أهمِّية بالنسبة لألمانيا اليوم هي القدرة على ضمان طاقة أرخص للشركات، مثل تلك المستمدَّة من المصادر المتجدِّدة، من أجل الحفاظ على قدرتها التنافسية في الأسواق الدولية.

ومن نقاط الضعف الهيكلية الرئيسية الأخرى اعتماد البلاد الهائل على الصين، وهي واحدة من أهم الأسواق للمنتجات الألمانية وكذلك المصدر الرئيسي لتوريد المواد الخام للصناعة. ومن الأمثلة على ذلك نموذج أعمال "فولكس فاغن": لا يتركز 40 بالمائة من المبيعات في الصين فحسب، بل يأتي جزء كبير من مكوِّناتها من الصين: لهذا السَّبب كانت ألمانيا الدولة الأكثر معارضةً لفرض رسوم أوروبية على السيارات الكهربائية الصينية.


وفقًا لأهم رابطة ألمانية لإنتاج السيارات، "اتِّحاد لصناعة السيارات"  (VDA)، بلغ إنتاج السيارات في ألمانيا في عام 2023 ما يزيد قليلاً عن 4 ملايين وحدة، أي أقل بمقدار الربع من الذروة في عام 2016. منذ عام 2018، فُقدت 64 ألف وظيفة في الصناعة - ما يقرب من %8 من القوى العاملة في قطاع السيارات في البلاد - وأصبح عشرات الآلاف الأخرين معرَّضين للخطر التسريح من العمل.


إنَّ الاعتماد المفرط على الصين لا يشكِّل خطرًا على قطاع السيارات ولشركة "فولكس فاغن" فحسب، وهي شركة تمرُّ أيضًا بأزمة خطيرة للغاية، بل على الصناعة بأكملها: سواء بسبب تباطؤ الاقتصاد الصيني، ممَّا يؤدِّي بالتالي إلى انخفاض الصادرات الألمانية، أو بسبب العداء التجاري والتكنولوجي المتزايد للغرب اتِّجاه البلاد، والذي قد يقرِّر عاجلاً أم آجلاً وقف المزيد من الأنشطة الصناعية ردًّا على الرسوم المفروضة على الإمدادات الاستراتيجية.


كل هذه الصعوبات - الوباء، وتحوُّل الطَّاقة (التخلي التدريجي عن الطاقة الروسية)، والمنافسة الصينية - هي  الصعوبات نفسها التي يواجهها العالم الغربي بأكمله، والتي ثبت أنَّها أكثر خطورة بالنسبة لألمانيا، لأنها وجدت نفسها في مواجهة نظام اقتصادي قديم غير قادر على الاستجابة للتحدِّيات الحديثة. وتتحمَّل السياسة قدرًا كبيرًا من المسؤولية عن ذلك: ففي حين تضع بقية دول العالم خططًا ضخمة للاستثمار والإنفاق العام، حتَّى على حساب الاستدانة، فإنَّ ألمانيا محاطة بسلسلة من القيود الدستورية والسياسية والثقافية التي تمنعها أساسًا من تحقيق ذلك.