ومنذ ذلك الحين لم تقع أعمال عنف واسعة النطاق، لكن ليبيا لا تزال منقسمة إلى قسمين، حيث تتنافس حكومتان مع بعضهما البعض، ولم يصمد السلام إلَّا بفضل اتِّفاق غير مستقرٍّ سمح للفصائل المختلفة بتقسيم ثروات ليبيا النفطية بنفسها. والآن تتصادم هذه الفصائل مرة أخرى، وأصبح النظام السياسي الهش والفاسد في ليبيا على وشك الانهيار.
تتعلَّق الأزمات بشكل رئيسي بالمصرف المركزي الليبي، وهو أحد المؤسسات القليلة التي تمكَّنت من الانسجام مع الجميع من خلال إدارة وتقسيم تدفُّقات الأموال من الخارج، وقبل كل شيء عائدات بيع النفط. ولكن بعد ذلك بدأت حكومة طرابلس (التي يدعمها المجتمع الدولي رسميًا) ورئيس المصرف المركزي الليبي، «الصادق الكبير»، في الصِّدام، ممَّا أدَّى إلى كسر التوازن السابق. وأُضيفت إلى ذلك التحرُّكات العسكرية الجديدة للجنرال «خليفة حفتر»، الذي يحكم الجزء الشرقي من ليبيا، والذي عاد لتحريك القوات غربًا، منتهكًا اتِّفاقيات وقف إطلاق النار لعام 2020. كما حرَّكها شرقا نحو الحدود مع الجزائر في استفزاز صريح قد يترتب عنه صراع مسلَّح لا يُحمد عقباه.
وتوجد قوات حفتر على مسافة قليلة من مدينة "غدامس" ومطارها قرب الحدود الجزائرية. وبرَّر «صدام حفتر»، نجل الجنرال «خليفة حفتر» ورئيس أركان القوات البرية لقوات الجيش الوطني الليبي، هذه التحركات العسكرية من برقة بكونها جُزءًا من خطة عالمية تهدف إلى حماية الحدود وتعزيز الأمن الوطني، مع تسيير دوريات في الصحراء مهمتها مراقبة الشريط الحدودي مع الدول المجاورة. هذه الرواية أكدها لـ"وكالة نوفا" العقيد «أغلس محمد أحمد»، قائد الكتيبة 173 من الجيش الليبي التابعة لقوات «حفتر» والمتمركزة جنوبي ليبيا بين "أوباري" والحدود مع الجزائر.
وفي طرابلس رئيس الوزراء هو «عبد الحميد الدبيبة»، الذي يحكم بمساعدة مجلس رئاسي من ثلاثة أعضاء يتولَّى مهام رئيس الدولة، في غياب رئيس منتخَب. وجرى تعيين حكومة «الدبيبة» في عام 2021 بدعمٍ من الأمم المتحدة وكان من المفترض أن تكون سُلطة تنفيذية انتقالية مهمَّتها إيصال ليبيا إلى انتخابات حرَّة وديمقراطية. في الواقع، كان «الدبيبة» والمجلس الرئاسي قد أجَّلا الانتخابات المقرَّرة نهاية عام 2021، وبقيا في السُلطة إلى أجل غير مُسمَّى منذ ذلك الحين: رغم عدم انتخاب أي منهم، لم يعد هناك أي حديث عن التصويت في ليبيا.
وحتَّى الجزء الشرقي من ليبيا، الذي يقع مقره في "بنغازي"، لديه رئيس وزرائه الخاص، «أسامة حماد»، الذي يدَّعي نظريًا سُلطته على البلاد بأكملها. في الواقع، يُسيطر على الجزء الشرقي من ليبيا الجنرال «حفتر»، أو بالأحرى إبناه «صَدَّام» و«بلقاسم»، اللذين يَحُلَّان تدريجياً محل «خليفة» المتقدم في السِّن، الذي يبلغ الآن 80 عامًا.
لكن تقسيم ليبيا أكثر تعقيدا من ذلك بكثير: ففي البلاد هناك بَرلمانان، وشخصيات مختلفة تتنافس على دور الرئيس، والعديد من الميليشيات المسلَّحة التي تمارس نفوذًا هائلًا على البلاد وسياساتها. إذن، تعاني كل من الحكومتين من تأثيرات خارجية: لتبسيط الأمور كثيرًا، خاصة طرابلس من تركيا؛ وبنغازي من روسيا والإمارات المتَّحدة. أما مصر، فلاتزال متردِّدة وتلعب مرة مع هذا الفريق، ومرة أخرى مع الأخر.
منذ عام 2020 وحتَّى اليوم، بقي الوضع مستقرًا إلى حدٍّ ما، وذلك بفضل تقسيم عائدات النفط بين الفصائل، بعد اتِّفاق بين الشرق والغرب نص على أن جميع عائدات النفط ستمرُّ عبر المصرف المركزي، والتي يوجد مقره في طرابلس. وبهذه الطريقة أصبح رئيس المصرف «الصادق الكبير» هو المدير الفعلي لجميع الثروات العامة في البلاد، وتعاون في البداية بشكل وثيق مع حكومة «الدبيبة» لإدارة الدولة والحفاظ على توازن التقسيم معًا.
لكن ابتداءً من صيف 2023، بدأت العلاقات بين «الدبيبة» و«الكبير» تسوء. هناك نظريات مختلفة منتشرة في السياسة الليبية حول الأسباب: يدَّعي البعض أن «الكبير» سئم من الإنفاق المفرِط والمحسوبية والفساد في حكومة «الدبيبة». ويرى أخرون أن «الكبير» كان يخشى استبدالَه، وأن «الدبيبة» أراد احتكار إدارة المال العام.
وفي نوفمبر 2023، أثناء وجوده في تركيا، تعرّض «الكبير» لحادثة سيارة، واعتقد الكثيرون أنه كان هجومًا. وفي الفترة نفسها بدأ بمنع تحويل الأموال إلى إدارة «الدبيبة» مرة أخرى: أولًا تدريجيًا، زاعمين أنَّ الأموالَ المتاحة قد استُنفدت، ثم بطريقة حاسمة على نحو متزايد.
وفي الأشهر الأخيرة، أنهى الكبير تحالفه مع «الدبيبة» وأصبح أقرب بشكل متزايد إلى حكومة شرق ليبيا، وقبل كل شيء إلى عائلة حفتر. وكان لهذا أيضًا عواقب اقتصادية: منذ بداية عام 2024، تعاني إدارة «الدبيبة» من نقص خطير في الأموال، بينما على العكس من ذلك، بدأت مبالغ هائلة تتدفَّق إلى بنغازي (من المحتمل من الإمارات العربية المتحدة)، وعلى وجه الخصوص إلى شركات أبناء «حفتر».
وذلك لأنَّه، وفقًا للعديد من المراقبين، بدأ «الكبير» والمصرف المركزي في تحويل الجزء الأكبر من عائدات النفط الليبية لصالح «حفتر». ونفى المصرف المركزي ذلك.
وقد أعطى تدفُّق الأموال نفوذًا اقتصاديًا ودبلوماسيًا كبيرا لِـ «حفتر»، الذين بدأوا أعمال تحديث مهمَّة في مدينة "بنغازي"، وتمكَّنوا من تقديم أنفسهم كمركز جديد للسلطة الليبية. حتى سلطات الدول الغربية بدأت تعترف بقوة أبناء «حفتر»: في يونيو من هذا العام، ولأول مرة، زار السفير الفرنسي ومجموعة من رجال الأعمال «بلقاسم»، نجل «خليفة»، واقترحوا مشاريع كبيرة للتعاون والتنمية الاقتصادية (ومع ذلك، كانت فرنسا قريبة دائمًا من «حفتر»، وكان هذا أيضًا بمثابة مفاجأة) موضوع الخلافات الكبرى مع الحكومات الإيطالية في السنوات الماضية).
وفي الأيام الأخيرة، أصبح الصِدام بين حكومة «الدبيبة» والمصرف المركزي بإدارة من «الكبير»، والذي ظلَّ خامدًا لأكثر من عام، واضحاً. وأعلن البنك المركزي يوم الأحد تعليق جميع العمليات، ممَّا أدَّى إلى شلِّ النظام المصرفي الليبي بأكمله، بعد اختطاف أحد مسؤوليه، ولا أحد يُعرف من قام به. وجرى إطلاق سراح المسؤول في وقت لاحق، لكن يوم الإثنين أصدر المجلس الرئاسي الليبي، الهيئة التي تدعم حكومة «الدبيبة»، مرسومًا بإقالة «الكبير». لكن رئيس المصرف تجاهله، مدَّعيًا أنَّه لم يعد مسؤولًا أمام السلطات في طرابلس، بل أمام برلمان الشرق، الذي يسيطر عليه «حفتر».
ومن غير الواضح ما الذي سيحدث الآن. منذ أسابيع، تتمركز ميليشيات مختلفة تُمثِّل مصالح مختلفة خارج المصرف المركزي، وهناك خطر من اندلاع أعمال شغب، أو أن يحاول «الدبيبة» الاستيلاء على المؤسَّسة بالقوَّة. ويحدث هذا الصدام على المصرف المركزي - وهو صراع على إدارة ثروات ليبيا العامة - بينما تدور أزمات أخرى في ليبيا، كلها مرتبطة ببعضها البعض.