في رُواندا، وفي غضون 100 يوم، من 7 أبريل إلى منتصف يوليو 1994، قُتل ما لا يقل عن 800 ألف شخص من "التوتسي"، ووقعت عشرات الآلاف من حالات الاغتصاب، وجرى تجنيد الأطفال كجنود. كما قُتل أكثر من 30 ألفًا من "الهوتو" المُعتدِلين الَّذين رَفضوا المشاركة في المذبحة أو الّذين اختبأوا ودافعوا عن "التوتسي". وامتد العنف أيضًا إلى "بوروندي"، حيث كانت التوتُّرات العرقية مماثلة.
قبل الهجوم
"رُواندا" و"بوروندي" دولتان صغيرتان غير ساحليتين في منطقة البحيرات الكبرى في شرق وسط أفريقيا. قصصهما مرتبطة جدًا: سيطر عليهما الألمان حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم أصبحتا مُستعمرَتين من بلجيكا الَّتي حصلت في عام 1924 على تفويض من رابطة الأمم - سلف الأمم المتَّحدة - لإدارة المنطقتين، اللَّتين كانتا تُسمَّى بإسم كيان واحد، "رواندا-أوروندي". وظلَّ الوضعُ على حاله تقريبا بعد عام 1945 ــ عندما حلَّت الأمم المتحدة محل "عصبة الأمم" اعتبارًا من 20 أبريل 1946ــ وحتى الاستقلال عن بلجيكا في عام 1962، عندما انفصلت "رواندا" و"بوروندي".
في كل من "بوروندي" و"رُواندا"، المجموعة العرقية السائدة هي مجموعة "الهوتو"، وهم مزارعون تقليديون؛ ثم هناك مُرَبُّو المَوَاشي "التوتسي". وقد شهد هؤلاء الأخيرون، الذين جرى تبشيرهم في بعثات دينية وتعلَّموا، تقويةَ وَضْعِهم خلال الإدارة الاستعمارية وتزايُد الاعتقاد بالتَفوُّق المزعوم على بقية السُكَان ليس فقط من خلال التحالف مع المُستعمرِين. وفي عام 1931، فرضت بلجيكا، من بين أمور أخرى، بطاقة هوية يجب أن تُظهر أيضًا الانتماء العرقي.
كما ساهمت سلسلة من النظريات في الانقسامات - تماشيًا مع الأفكار العُنصرية التي كانت رائجةً على نطاق واسع آنذاك في أوروبا - والتي نشرت فكرة الأصل العنصري المُتميِّز بين المجموعتين العرقيتين: وصف المستعمرون "التوتسي" بأنهم قادة طبيعيون، في حين وصف المستعمرون "الهوتو" بأنَّهم سُكَّان مُقدَّر لهم "بطبيعتهم" أن يَظلُّوا خَاضِعِين. وكان لهذه الدراسات، التي من الواضح أنَّها كاذبة والغاية منها التفرقة، تأثير كبير على التاريخ السياسي المحلِّي منذ ذلك الحين.
منذ عام 1959 وحتَّى الاستقلال، مرَّت "رُواندا" بفترة مُضطرِبة للغاية، سُمِّيت "بالثورة الاجتماعية"، حيث أُجبر معظمُ "التوتسي" على النفي إلى البلدان المجاورة أو قُتلوا في سلسلة من الاشتباكات العرقية التي بدأت مباشرة بعد عام 1962. وفي التسعينيات، بدأ المنفيون التوتسيون في تسليح أنفسهم وتنظيم أنفسهم في "الجبهة الوطنية الرواندية"، بدعمٍ من أوغندا، وبدأ نظام الرئيس «جوفينال هابياريمانا»، الذي يتولَّى السُّلطة منذ عام 1973، في الدخول في أزمة: ليس فقط لأنَّ «هابياريمانا» قد أدخل إجراءت لا تحظى بشعبية كبيرة بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور باستمرار، ولكن أيضًا لأنَّهُ وافق في مقابل المساعدات الاقتصادية الفرنسية على إنشاء أحزاب أخرى سرعان ما ثبت أنها تَنتقدُه بشدَّة. ويجب أن نضيف إلى كل هذا أنَّ تصرُّفات "الجبهة الشعبية الثورية"، بقيادة «بول كاغامي» (Paul Kagame)، الرئيس الحالي لرواندا، أصبحت أكثر إلحاحًا وفعاليةً.
ولذلك لم يكن أمام «هابياريمانا» أي خِيار سوى الاستسلام والتفاوُض على ما يُسمَّى بـ "اتفاقيات أروشا" مع "الجبهة الوطنية الرواندية". وهكذا، ابتداءً من أبريل 1993، بدأت عملية كان هدفها تشكيل "حكومة وحدة وطنية" تَضُمُّ "الجبهة الشعبية الثورية". وقد دعم العديد من زعماء "الهوتو" الديمقراطيين عملية السلام، التي تعرَّضت للانتقاد والعرقلة من قبل المتطرِّفين "الهوتو"، الذين عزَّزوا تنظيم أنفسهم في كل من "رواندا" و"بوروندي".
بعد الاستقلال، بقي "التوتسي" في الحكومة في "بوروندي" لسنوات عديدة، وفقط في عام 1993 جرى انتخاب أول رئيس من "الهوتو" للبلاد، «ملكيور نداداي» (Melchior Ndadaye): مع ذلك، فقد قُتل هو وخليفتُه «سيبريان نتارياميرا» (Cyprien Ntaryamira) في غضون بضعة أشهر. توفي «نتارياميرا» مع رئيس رواندا «هابياريمانا» في 6 أبريل 1994 بينما كانا على متن طائرة كانت عائدة من قمة رؤساء الدول في "تنزانيا" والتي أَسْقَطها صاروخُُ. بدأت هذه الأحداث بالإبادة الجماعية في "رُواندا"، والتي انتهت في يوليو عندما اتَّحدت ميليشيات "التوتسي" في "الجبهة الوطنية الرواندية" بقيادة «بول كاغامي»، ونجحت في إطاحة حكومة "الهوتو" ووضع حَدٍّ للمذبحة. أصبح «كاغامي» رئيسًا مؤقَّتًا للبلاد، وانتُخب في عام 2003 وأُعيد انتخابه في عامي 2010 و2017.
منذ نهاية الإبادة الجماعية، اعتُبر «كاغامي» "المنقذ" للبلاد، حتى لو أصبحت حكومته تدريجيا أكثر دكتاتورية، واليوم تُعدُّ "رواندا" واحدة من أكثر الدول الاستبدادية في إفريقيا.
بعد ذلك مباشرةً
مباشرة بعد وفاة رئيسي "رواندا" و"بوروندي"، ساء الوضع، ولكن كان من الواضح على الفور أنَّ كل شيء كان مُخطَّطًا له منذ بعض الوقت: كانت هناك قوائم دقيقة تُشير إلى مَن يُقتَل ومن لا يُقتَل، وكانت هناك مستودعات مليئة بالأسلحة، وبدا أنَّ متطرفي "الهوتو" ينتظرون الأوامر فحسب.
شارك معظم السكان "الهوتو" البالغين (الذين يُشكِّلون نحو 85 بالمائة من السكان، بينما كان "التوتسي" 15 بالمائة) في المذابح التي وقعت من منزل إلى منزل أو شهدوا عليها. كما نظَّم مرتكبو الإبادة الجماعية أنفسهم في مجموعات لمطاردة "التوتسي" الذين كانوا مختبئين أو الذين تحصَّنوا في منازلهم واحدًا تلو الأخر.
بعد إسقاط الطائرة في "رواندا"، اتهمت "حركة الهوتو" الرئيسية الزعيم السياسي للتوتسي «بول كاغامي» بالهجوم، لكن بحسب أخرين ء وبحسب "الجبهة الشعبية الثورية" نفسها ء فإنَّ محاولات اغتيال الرؤساء كانت من حركات "الهوتو" نفسها، التي انتقدت مبادرات «هابياريمانا» اتجاه أقلية "التوتسي". لم تتوصل التحقيقات اللاحقة إلى أي استنتاجات: البعض يدعم الأطروحة الأولى والبعض الأخر يدعم الثانية. والنتيجة هي أنه حتى اليوم ليس من الواضح كيف سارت الأمور.
في قلب الانتقادات والأمور غير الواضحة التي حدثت خلال مجازر 1994 ليس موضوع الطائرة فقط: هناك أيضًا الموقف غير المهتم للمجتمع الدولي، وتقاعس الأمم المتحدة، فضلاً عن السلوك التعاوني لبعض الدول الغربية اتجاه أحد الأطراف المعنية، مثل فرنسا اتجاه "الهوتو".