وفي خطاب كئيب ومهيب ألقاه في جامعة السوربون في باريس، والذي عاد في كثير من الأحيان إلى موضوع النظام العالمي سريع التغيُّر، استحضر «ماكرون» موت أوروبا باعتباره احتمالا حقيقيا. وقال إن القارَّة تستثمر بشكل أقل في الابتكار، وتفشل في حماية صناعاتها وتعزيز جيشها ودفاعاتها.
وقال في خطاب طال انتظاره ردَّد صدى خطاب تاريخي ألقاه هناك بعد أشهر من ولايته الأولى في عام 2017: "“إنَّ أوروبا قابلةُُ للموت، يمكنها أن تموت. لمنع ذلك، يتوقَّف الأمر فقط على خياراتنا، ويجب اتِّخاذ هذه الاختيارات الآن". وقال أمام جمهور من المسؤولين والصحفيين والسياسيين: “”في العقد المُقبل، سيكون هناك خطر كبير يتمثَّل في إضعافِنا، بل وحتَّى في تراجع مكانتنا"، في إشارة إلى تغيُّر الجغرافيا السياسية وتزايد جُرأة الأنظمة التي يصفها بـ "الاستبدادية".
وأضاف: "لقد انتهى عصر إنتاجنا مع توحُّش الصين، وتفويض أمر الدِّفاع عن أمننا للولايات المتحدة، والحصول على الطاقة من روسيا. لقد تغيَّرت قواعد اللعبة". واتَّهم الرئيس الفرنسي كلا من الولايات المتحدة والصين بعدم احترام قواعد التجارة العالمية في دعم اقتصاداتها على نطاق واسع.
وقال: "مهما كانت قوة تحالفنا مع أمريكا، فإننا لا نشكِّل أولوية بالنسبة لهم". بالنسبة لهم، "لديهم أولويتان: أنفسهم ـ عادلون معها بما فيه الكفاية ـ والصين".
وفي تكرارٍ للدَّعوات السابقة لصالح البحث عن طريق ثالث بين الولايات المتحدة والصين، قال الرئيس الفرنسي إن أوروبا يجب أن تُظهر أنها "لن تكون أبدًا تابعةً للولايات المتحدة" عندما "تتحدث إلى مناطق أخرى من العالم".
وقال إنَّ أوروبا قطعت خطوات كبيرة في وحدتها واستقلالها الذَّاتي في السنوات الأخيرة في مواجهة جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا، لكن "الصَّحوة بطيئة للغاية". ودعا الرئيس الفرنسي إلى سياسة تجارية أكثر عدوانية واستثمارات عامة أكبر بكثير في مجموعة من المجالات الحيوية.
لكنَّ الرئيس الفرنسي كان أقل تحديدًا فيما يتعلَّق بالسؤال الحاسم المتمثِّل في كيفية قُدرة أوروبا على تمويل تحوِّلها نحو أن تصبح ما أسماه "قوة أوروبية". وكرَّر دعمه للحصول على ديون مشتركة جديدة، على غرار ما كان لدى الاتحاد الأوروبي أثناء الوباء، وطرح تعزيز موارد الاتحاد الأوروبِّي الخاصة من خلال عائدات ضريبة الكربون في الاتحاد الأوروبي أو ضريبة على المعاملات المالية.
مقترحات ماكرون
قدَّم الرئيس الفرنسي سلسلة من المقترَحات الجديدة في مجالات الدفاع والاقتصاد والتجارة قال إنَّها يمكن أن تُعيد أوروبا إلى المسار الصحيح.
قال «ماكرون» إن الاتِّحاد الأوروبي يجب أن يهدف إلى أن يُصبح "قائدًا عالميًا" بحلول عام 2030، مع "استراتيجيات تمويل مخصَّصة" في خمسة مجالات استراتيجية: الذَّكاء الاصطناعي والمعلومات الكَمِّية والفضاء والتكنولوجيات الحيوية والطاقات الجديدة.
ودعا «ماكرون» إلى إضافة "هدف النمو، أو حتى هدف إزالة الكربون" إلى مهام البنك المركزي الأوروبي. وقال: "لا يمكن أن تكون لدينا سياسة نقدية هدفها الوحيد هو السيطرة على التضخُّم".
ودعا «ماكرون» يوم الخميس أيضا إلى "مراجعة" السياسة التجارية لأوروبا من أجل "الدفاع عن مصالحنا".
وقال "لا يمكن أن ينجح الأمر إذا كنا الوحيدين في العالم الذين يحترمون قواعد التجارة التي كتبت قبل 15 عاما، عندما لم يعد الصينيون والأمريكيون يحترمونها في دعم المجالات الحيوية"، مضيفًا أنه يتعيَّن على أوروبا اللُّجوء بشكل منهجي إلى "أدوات المنافَسة المُخلِصة".
وللاستجابة لاحتياجات أوروبا الجديدة الهائلة فيما يتعلَّق بالدفاع، دعا الرئيس الفرنسي الأوروبيين إلى بناء "مبادرة دفاع أوروبية" "قد تشمل درعًا أوروبيًا مضادًا للصواريخ"، وهو موضوع خلاف مستمر بين فرنسا وألمانيا.
كما دعا «ماكرون» إلى فرض "تفضيل أوروبي" في شراء المعدَّات العسكرية، بحُجَّة أن الكثير من أموال الاتحاد الأوروبي يتم إنفاقها على الشركات المصنعة غير الأوروبية.
ليس الرجل نفسه
في حديثه في جامعة السوربون، كان الرئيس الفرنسي يحاول استعادة روح خطابه الأول حول أوروبا كرئيس منتخب حديثًا في عام 2017، والذي لقي في البداية ترحيبًا فاترًا في العديد من العواصم الأوروبية، ولكن جرى إثباته لاحقًا إلى حدٍّ كبير من خلال الأحداث الجيوسياسية.
وقد تردَّدت الآن أصداء المساعي التي تبذلها فرنسا من أجل تحقيق قدر أكبر من الاستقلال والسيادة على المستوى الاستراتيجي الأوروبي في المفوضية الأوروبية، ولكن أيضًا في دول أخرى في الاتحاد الأوروبي.
وتحدَّث «ماكرون» لمدة 90 دقيقة يوم الخميس، في مُدرَّج نصف فارغ. ومع ذلك، فإن استنتاجه بأنه لا يزال "متفائلاً" بشأن أوروبا، لا يمكن أن يصرف الانتباه عن حقيقة أنَّ الرئيس الفرنسي الضعيف للغاية كان يخاطب فرنسا وشركائه الأوروبيين.
ويختلف «ماكرون» في انتخابات 2024 كثيرًا عن الذي تحدث في عام 2017. وقد فقد الرئيس الفرنسي منذ ذلك الحين الأغلبية المُطلَقة في البرلمان ويُكافح من أجل تمرير التشريعات في الداخل. وتضرَّرت سمعة البلاد في الخارج بسبب الاحتجاجات التي تصدَّرت عناوين الأخبار ضدَّ إصلاحه الرئيسي لنظام معاشات التقاعد والمشاكل المالية الأخيرة، بما في ذلك أرقام العجز الأعلى من المتوقَّع.
وكان المقصود من خطاب «ماكرون» أيضًا تحفيز الحملة الانتخابية المتعثِّرة لحزب النهضة الذي يتزعَّمه، بقيادة «فاليري هاير»، والذي يتخلَّف عن اليمين المتطرِّف بأكثر من 10 نقاط. ولم يذكر الرئيس الفرنسي الحملة لكنَّه استهدف "القوميين" الذين لم يعودوا يجادلون لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي ولكنهم ببساطة يريدون تعطيله من الداخل.
وفي مواجهة الشعبوية المتصاعدة، قال «ماكرون» “يَكمُن الخطر في أن الجميع أصبحوا أكثر خجلا" خوفًا من تغذية المزيد من القومية، لكن الرد ليس الخجل بل الجُرأة.”
وفي نهاية الخطاب، تحوَّل الرئيس الفرنسي إلى موقف فلسفي بشأن مستقبل القارة. "يمكننا حتى أن نسأل أنفسنا، ما هي الأمة؟ ماذا تريد أوروبا أن تصبح؟” و قال: “هذه لحظة حاسمة، بل نقطة تحوُّلٍ للنجاة. لأن أوروبا وطننا يمكن أن تموت.”