إنَّ العلاقات بين الصين والولايات المتَّحدة عند أدنى مستوياتها منذ عشر سنوات على الأقل، وفي الأشهر الأخيرة فقط حاولت إدارة «جو بايدن» وحكومة «شي جين بينغ» استعادة خطوط الاتِّصال الرسمية على الأقلِّ وتحقيق الاستقرار في العلاقة التي أصبحت محفوفةً بالمخاطر على نحوٍ متزايدٍ، ما يجعلها تصب في مصلحة روسيا، العدو اللذوذ للحلف الغربي. وتُشكِّل زيارة «بلينكن» جُزءًا من عملية الانفراج الحذر هذه، بحيث يظلُّ البلدان في منافسة مع بعضهما البعض، وحتى الخصوم، ولكنهما يدركان الحاجة إلى التحدُّث مع بعضهما البعض.
من الناحية الرَّسمية، سارت الزيارة بشكل جيد إلى حدٍّ ما، وجرى تنظيمها بعد سلسلة من الزيارات المتبادَلة الأخرى التي كان هدفها على وجه التحديد جعل العلاقات بين البلدين أكثر استقرارًا: في الأشهر الأخيرة، من بين أمور أخرى، زارت وزيرة الخزانة «جانيت يلين» الصين مرَّتين، وفي نوفمبر من العام الماضي كان هناك اجتماع في "سان فرانسيسكو" بين الرئيسين، «بايدن» و«شي»، والذي اعتُبر بداية المسار الحالي لتحقيق الاستقرار في العلاقات بين البلدين.
نتحدَّث عن الاستقرار لأنَّه منذ رئاسة «دونالد ترامب» (2017ء2021)، كانت العلاقات بين الصِّين والولايات المتحَّدة متوتِّرةً بشكل متزايد وفي بعض الحالات عدائية، بسبب القرارات التي اتَّخذها كلا الزعيمين. فمن ناحية، تبنى «ترامب» سياسة اقتصادية وتجارية حمائية على نحو متزايد تهدف إلى عزل الصِّين عن بعض الصناعات الاستراتيجية التي تتمتَّع فيها الولايات المتَّحدة بميزة تنافسية، مثل "المعالجات الدقيقة" (microprocessori). ومع وصول «جو بايدن» رئيسًا في عام 2021 لم يُحسِّن الأمور، بل على العكس من ذلك، عزّزت إدارتُه بعض سياسات «ترامب» ضد المنافسة الاقتصادية والتجارية الصينية، وخلقت سياسات جديدة.
ومن ناحية أخرى، تبنَّى «شي جين بينج» ــ الزَّعيم الأقوى، ولكنَّه أيضًا الأكثر قوميةً، في الصِّين منذ خمسين عاماً ــ سياسات حازمة على نحو متزايد بهدف الدخول في منافسة مباشرة مع الولايات المتحدة على المستويين الاقتصادي والعسكري. وقد ساهم ذلك في توجيه العلاقة بين البلدين إلى مسار متزايد الصراع والمخاطر: من ناحية، القيادة الصينية مُقتنِعة بأن الولايات المتحدة مُصمِّمة على عرقلة تطورها بأي وسيلة؛ ومن ناحية أخرى، صاغت القيادة الأمريكية المنافَسة مع الصين باعتبارها صراعًا أوسع بين الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية، تماما كما تفعل مع روسيا، ونسيت الاستبداد المتفشي فيها من دون أن تحاربه: آخر مظاهر هذا الاستبداد هو مصادرة حرية التعبير بالأدلة والبراهين والحجج الدامغة، إذا تحدثت أصوار الجامعات التعليمية الملطخة بدماء المتظاهرين سلميا ضد تواطؤ نظام «بايدن» مع النظام الصهيوني الذي يحدث جيشة إبادة جماعية لفلسطينيي غزة أمام أنظار المجتمع الدولي الذي يتصبّب عرقا من شدَّة الخوف.
كما ساهمت بعض الأحداث الأكثر تحديدًا في تدهور العلاقات، مثل جائحة فيروس كورونا (مع الجدل الشهير حول الأصل الصيني للفيروس) وزيارة رئيسة مجلس النواب آنذاك، «نانسي بيلوسي»، إلى تايوان. حدثت لحظة معقَّدة أخرى قبل ما يزيد قليلاً عن عام، عندما اكتشفت الولايات المتَّحدة مِنطاد تجسُّس صيني يُحلِّق في مجالها الجوِّي، مما تسبَّب في حادثة سياسية كبيرة: في تلك الأيام بالذَّات كان من المفترَض أن يزور «بلينكن» الصين، وهي أول زيارة دولة يقوم بها وزير خارجية أمريكي منذ عام 2018، لكنه ألغى كل شيء.
باختصار، منذ نحو عام، تدهورت العلاقات بين الصِّين والولايات المتَّحدة إلى حد أن الاتصالات توقَّفت فِعلًا، ليس فقط على المستوى السياسي: فقد وقَعَ حظر الاتِّصالات العسكرية الروتينية بين الجيشين الأمريكي والصِّيني، وهذا أمرُُ خطيرُُ للغاية بالنسبة لدولتين لهما وجود عسكري كبير في الخارج مثل الصِّين والولايات المتَّحدة، لأن كل ما يتطلَّبه الأمر هو حادثة واحدة صغيرة لإثارة مواجهة أكبر.
ولهذا السبب، بذل البلدان في الأشهر الأخيرة جهودًا كبيرةً لمحاولة استقرار العلاقات: بذلت الولايات المتَّحدة جهدًا دبلوماسيًا كبيرًا وأرسلت إدارة «بايدن» العديد من المسؤولين إلى الصِّين لاستعادة العلاقات والعلاقات الشخصية، وهو ما يسمى باللغة الإنجليزية "الدبلوماسية وجهاً لوجه"، أي الدبلوماسية التي تَحدُث شخصيًا. ولكن التغيير الأكثر بروزاً كان ذلك الذي حدث في الصين، التي بدأت تعترف علنًا بفكرة المنافسة الجارية بين البلدين.
قد يبدو الأمر غريبا، لكن حتَّى وقت قريب نسبيا كان الموقف الصِّيني الرَّسمي هو أنَّه لا توجد منافسة مع الولايات المتَّحدة، بل على الأكثر عدوان من جانب واحد على الجانب الأمريكي: وذلك لأنَّ الفكرة التي طالما أرادت الصِّين أن تُقدِّم نفسها للعالم إنها "قُوَّة عُظمى" مُحِبَّة الخير للجميع، لا تنافس ولا تولد عداوة مع أحد. لسنوات عديدة، كانت الكلمة الطنَّانة للعلاقات الصينية الأمريكية في وسائل الإعلام الصينية هي "التعاون المُربِح للجانبين"، أي التعاون الذي يفوز فيه الجانبان بشيء ما.
وأخيراً، خلال زيارة «بلينكن» الأخيرة إلى بيكينو، تحدَّث مع «شي جين بينغ» حول الدَّعم الاقتصادي الذي تُقدِّمه الصين لروسيا في حربها العدوانية على أوكرانيا، مع «بلينكن» الذي حاول الضَّغط عليه للحد منه. كما اشتكى الطرفان منذ فترة طويلة مما يعتبرانه ممارسات تجارية غير عادلة من جانب الطرف الأخر. واشتكى ممثِّلون صينيون من أن الولايات المتَّحدة تتبنَّى سياسة صناعية حمائية بشكل متزايد، بينما تحدَّث «بلينكن» عن سياسة التصدير العدوانية للغاية التي تبنَّتها الصين في الأشهر الأخيرة، والتي تُخاطر بتعريض الصناعات الأمريكية للخطر. على أي، لا الصين قادرة على التخلي عن طموحاتها، ولا الولايات المتحدة تسمح بأن يسحب بساط الهيمنة والنفوذ من تحت قدميها، لكن المنافسة وحشد الدعم من يقرر ذلك.