في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، زادت شحنات الغاز الطبيعي المُسال الروسي إلى فرنسا أكثر من أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي مقارنة بالعام الماضي، وفقًا للبيانات التي حلَّلها "مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف" (CREA) لمجلة "بوليتيكو".
وفي قدر إجمالي، دفعت باريس أكثر من 600 مليون يورو للكرملين مقابل إمدادات الغاز منذ بداية العام، حسبما أظهرت البيانات، مما أدى إلى دعوات لفرنسا للحد من مشترياتها المتزايدة.
وقال دبلوماسي من إحدى دول الاتحاد الأوروبي، الذي مثل الأخرين في هذه القصة فضّل عدم الكشف عن هويته: ”لا يمكن أن تقول فرنسا، من ناحية، إنه يتعيّن علينا أن نكون قاسيين مع روسيا، ومن ناحية أخرى، تدفع لهم أموالاً طائلة.” وتأتي تجارة الغاز المتنامية بين باريس وروسيا في الوقت الذي يسعى فيه «ماكرون» إلى اتِّخاذ موقف أكثر تَشدُّدا لدعم كييف بعد عامين من شن موسكو لأول مرة غزوها الشامل لجارتها.
وفي الشهر الماضي، اقترح الرئيس الفرنسي إرسال قوات إلى أوكرانيا، وحث الحلفاء على التحلّي "بالشجاعة" في الدفاع عن كييف، مما يمثل تحوُّلا حادًّا عن دعواته السابقة لعدم "إذلال" الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين».
وتصر فرنسا على أن مشترياتها من الغاز ضرورية للحفاظ على تدفق الإمدادات إلى الأسر في جميع أنحاء أوروبا، وأنها مقيدة باتفاقية طويلة الأجل مع روسيا والتي يصعب الهروب منها من الناحية القانونية. لكن منتقدين قالوا إن باريس يمكن أن تفعل المزيد لخفض مشتريات الغاز الروسي، قائلين إن تقاعسها يرجع جزئيا إلى مقاومة شركة الطاقة الوطنية الفرنسية الكبرى "توتال إنيرجيز".
وفي جميع الأحوال، تكشف الواردات عن الجهود المتعثِّرة التي يبذلها الاتحاد الأوروبي للقضاء على عائدات روسيا من الوقود الأحفوري - والتي تمثّل ما يقرب من نصف ميزانية الكرملين - حيث تجد موسكو طرقًا مبتكرة على نحو متزايد للتحايل على التدابير الحالية والإفلات من عقوبات الاتحاد الأوروبي.
واعترف مسؤول بوزارة الطاقة الفرنسية بأن هذا ليس موضوعاً سهلاً، إذ قال: “إذا واصلنا دفع ثمن الغاز الذي لا نستورده، فلا فائدة من ذلك”، في إشارة إلى العقود طويلة الأجل التي وقعتها شركة "توتال إنيرجي" والتي تجبرها على شراء الغاز الطبيعي المسال من روسيا.
وفي غضون أشهر من الهجوم الروسي واسع النطاق على أوكرانيا في عام 2022، قدم الاتحاد الأوروبي خطة لإنهاء اعتماد الكتلة على واردات موسكو الأحفورية بحلول عام 2027. حتَّى الآن، كانت ناجحة إلى حد كبير. ورغم أنَّ البعض في الاتحاد الأوروبي يواصل شراء الوقود النووي وبعض خطوط أنابيب النفط والغاز من روسيا، إلا أن الكتلة قلّصت اعتمادها على غاز موسكو بنحو الثلثين وفرضت حظرًا شاملا على واردات الفحم والنفط عن طريق البحر.
لكن الجهود المماثلة لقطع الغاز الطبيعي المُسال تعثَّرت. وعلى الرغم من أنَّ الوقود كان يُمثِّل خمسة بالمائة فقط من استهلاك الغاز في الاتِّحاد الأوروبي العام الماضي، إِلَّا أن دُوَل الاتِّحاد الأوروبي دفعت لموسكو أكثر من 8 مليارات يورو مقابل صادراتها، وفقًا لتقرير جديد صادر عن "مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف" صدر الخميس.
وفرنسا ليست المراوغ الوحيد، لأن بيانات الشحن أظهرت أن تسع دول على الأقل في الاتحاد الأوروبي تواصل شراء الغاز الطبيعي المُسال الروسي، لكن باريس تصدَّرت دول الاتِّحاد من حيث الحجم المُطلَق للواردات في عام 2024 – 1.5 مليون طن إجمالاً – والزيادة في المشتريات مقارنة بالفترة نفسها للعام الماضي.
وقالت وزيرة الطاقة الإسبانية «تيريزا ريبيرا» (Teresa Ribera) للصحفيين خلال اجتماع لوزراء الطاقة بالاتحاد الأوروبي الشهر الماضي: "إنَّ السبيلَ الوحيدَ للمُضي قدُمًا هو... نهج مشترَك بشأن كيفية خفض أو حظر الواردات". "نحن بحاجة إليها في أقرب وقت ممكن." وفي الاجتماع نفسه، اقترحت ليتوانيا فرض حظر كامل على الغاز الطبيعي المسال الروسي. لكن باريس ظلَّت صامتةً إلى حد كبير بشأن اتِّخاذ أي إجراء. وفي الواقع، دافع وزير الاقتصاد الفرنسي «برونو لو مير» (Bruno Le Maire) عن مشتريات باريس المستمرَّة. وقال للمُشَرِّعين هذا الشهر إنَّ إنهاء اعتماد فرنسا على غاز موسكو يجب أن يحدثَ "تدريجيًا لتجنُّب التأثير الوحشي على السوق" وارتفاع الأسعار.
إِنَّ ردَّ الفعلِ الصامت ِهذا لا يُقنع باحثي الطَّاقة، الَّذين يُشكِّكون في المزاعم القائلة بأنَّ التخلِّي عن الغاز الروسي من شأنه أن يُعكِّر صفو الأسواق. وبدلاً من ذلك، قال «فوك فينه نغوين» (Phuc-Vinh Nguyen)، محَلِّل الطاقة في معهد "جاك ديلور"، ومقره في باريس، إنَّ الحكومة الفرنسية ببساطة “ليس لديها مصلحة في التحدُّث بصوتٍ عالٍ بشأن ذلك” لأنَّه “يتعارض” مع مساعي ماكرون المُتجدِّدة لمساعدة أوكرانيا، "إنه أمر مخز بالنسبة لهم."
وقال مُتحدِّثُُ باسم وزارة الاقتصاد الفرنسية لمجلَّة "بوليتيكو" إنَّ زيادة الغاز الروسي ترجع جزئيًا إلى الإضرابات التي "عطَّلت بشدَّة" التدفقات الطبيعية في العام الماضي. وأضاف المتحدث أنَّ باريس "تناقش بانتظام" الجهود المبذولة لتقليل واردات الوقود الأحفوري الروسي مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي، بحُجَّة أن "مستوى عال" من الغاز ينتقل عبر فرنسا ويساعد في إمداد دول أخرى مثل إيطاليا. وأضاف المتحدث أن الحكومة "تدرس إمكانيات الإمدادات البديلة... من دون تعريض أمن الطاقة الأوروبي للخطر"، مُشدِّدًا على أنَّ باريس تدعم التخلُّص التدريجي الكامل من الطاقة بحلول عام 2027.
الحظر التام للغاز الروسي
إن الحرج ليس هو السبب الوحيد الذي يجعل فرنسا تحجم عن خفض وارداتها من الغاز الروسي. لماذا؟ لأنَّ شركة الطاقة الفرنسية العملاقة "طوطال إنيرجيز" تمتلك حصة %20 في مشروع "يامال" للغاز الطبيعي المُسال، الذي يدير مصنع تسييل في شمال غرب "سيبيريا" تملكه شركة الطاقة الخاصة الروسية "نوڤاتيك". وبموجب عقد طويل الأجل، تضطرُّ الشركة الفرنسية إلى الاستمرار في شراء ما لا يقل عن 4 ملايين طن من الغاز الطبيعي المُسال من المنشأة كل عام حتى عام 2032. وقد وصف الرئيس التنفيذي للشركة، «باتريك بويانيه» (Patrick Pouyanné)، علانيةً الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على حظر الغاز الطبيعي المُسال الروسي بأنَّه "غير معقول" قبل عام 2025 أو 2026، عندما تبدأ مشاريع الغاز الطبيعي المُسال الجديدة في جميع أنحاء العالم بما في ذلك الولايات المتحدة.
وقال «فوك فينه نغوين» في حديث عن "توتال إنرجيز": باعتبارها "شركة طاقة" وواحدة من أكبر الشركات في فرنسا، يستمع إلى إدارتها باهتمام شديد" في الحكومة. ويمكن رؤية هذا الترُّدد أيضًا في أماكن أخرى. وفي هولندا، حيث تلتزم شركة "طوطال إنرجيز" أيضًا بعقد طويل الأجل مع شركة يامال للغاز المُسال، أرسلت الحكومة عدَّة طلبات تَطلب من الشركة خفض وارداتها طوعًا منذ عام 2022، وفقًا لمسؤول هولندي. وقال المسؤول: "لكنهم لم يستجيبوا لنا قط".
ورفض متحدِّثُُ بإسم شركة "طوطال إنرجيز" التَّعليق على مناقشاتها مع الحكومة الهولندية، لكنَّه قال لمجلَّة "بوليتِكو" إن الشَركة تمتثل لقوانين الاتحاد الأوروبي و"لا تُمارِس أي ضغط ضد العقوبات". وأشار المتحدِّثُ أيضًا إلى أنَّ الشركة لم تبع حصَّتها في "يامال للغاز الطبيعي المُسال" للمساعدة في حماية إمدادات الطاقة في أوروبا، بحُجَّة أنَّه "في سوق الغاز الطبيعي المُسال العالمي، لا تزال الإمدادات محدودة".
وقالت وزارة الاقتصاد الفرنسية إنَّ قضية الغاز الطبيعي المُسال الروسي "لا تتعلَّق بعقد "طوطال إنرجيز" أو أنشطتها، بل تتعلَّق بفُرَص ومخاطر فرض عقوبات جديدة على الاتحاد الأوروبي بأكمله".
هل يوجد اتفاق موحَّد بشأن حظر الغاز الروسي المُسال؟
تبدأ المفوضية الأوروبية، الهيئة التنفيذية للاتحاد الأوروبي، الاستعدادات لحزمة عقوبات أخرى ضد روسيا، وهي الحزمة الرابعة عشرة. لكن من غير المرجَّح أن يحدثَ تضمين الغاز الطبيعي المُسال في هذه الحُزْمة، على الرَّغم من الطلبات المتكرِّرة من دول البلطيق وبولندا. لقد عارَضتْ المجر تاريخيًا الإجراءت المتعلِّقة بالغاز، ويجب أن توافق جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبِّي البالِغ عددها 27 دولة على العقوبات.
واعترف أحد كبار المسؤولين في المفوضية الأوروبية قائلاً: "أشكُّ في أنَّنَا نحصل على إجماع بشأن هذا الأمر". وأضاف المسؤول أن دول الاتحاد الأوروبي تتمكَّن قريبًا من منع الشركات الروسية قانونًا من شراء القُدرة في محطَّات الغاز الطبيعي المُسال الخاصَّة بها. لكن فك تشابك العقود طويلة الأجل مع الشركات الروسية يُمثِّل قضية مُعقَّدة أخرى بالنسبة للاتِّحاد الأوروبِي. وقال «دوغ وُوْد» (Doug Wood)، الذي يرأس لجنة الغاز في لوبي تجار الطاقة بالاتحاد الأوروبي، إن هذه الاتِّفاقيات غالبا ما تُجبَر شركات الطَّاقة على دفع ثمن كمِّية محدَّدة من الغاز حتَّى لو استمرَّت في التوقُّف عن شراء الشُحنات الفعلية من روسيا.
ومع ذلك، وافقَ «وُوْد» على أنَّ شركات الطاقة يُمكنها خفض واردات الغاز الرُّوسي إلى هذا الحد الأدنى. وبدلاً من ذلك، يمكن لحكومات الاتحاد الأوروبي فرض حد أقصى لسعر واردات الغاز الطبيعي المُسال الروسي، حسبما أشار تقرير CRىإ. ووجد التحليل أنَّ الحد الأقصى لسعر الاتحاد الأوروبي المحدد بـ 17 يورو لكل ميغاوات في الساعة يمكن أن يخفض أرباح موسكو من الغاز الطبيعي المُسال بنحو الثلث بناءً على أرقام العام الماضي. ومع ذلك، قال «وُوْد» إن أي حل يتطلب في الأساس عملاً مشتركًا ء على الأقل من جانب أكبر الدول المستورَدة في الاتحاد الأوروبي ء حتى لا يُعاد توجيه تَدفُّقات الغاز الروسي فحسب. وهذا يتطلَّب من فرنسا التدخُّل والمساعدة.