عندما قامت الشرطة الإيطالية، في نهاية شهر فبراير، بقمع مظاهرة مؤيِّدة للفلسطينيين نظَّمها طلاب المدارس الثانوية مطالبين بوقف إطلاق النَّار في غزة، واتَّهمتهم وضربت بعضهم بالهراوات حتى الدماء، كانت هناك مجموعة من الإدانات في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك من رئيس الجمهورية الإيطالية، «سيرجيو ماتّاريلّا».
وبدلاً من ذلك، سارعت الحكومة اليمينية المتطرفة بقيادة «جورجا ميلوني»، إحدى أهم زعماء اليمين المتطرف في أوروبا، إلى الدفاع عن الشرطة. قبل أسبوعين فقط، خلال مهرجان سانريمو، انتقد بعض المسؤولين الحكوميين إثنين من المُغَنيين الذين دعوا إلى وقف إطلاق النار (كان أحدهما أكثر وضوحا، وهنا نشير إلى المغبي التونسي الإيطالي "غالي" ، الذي وصف تصرفات إسرائيل في غزة بأنها "إبادة جماعية").
وهذا يعني أن يمين ما بعد الفاشية الإيطالية، كان ولايزال يدعم دائمًا دولة إسرائيل إلى حد كبير. لفترة طويلة، دعمت الحركة الاجتماعية الإيطالية، الحزب الذي وُلد منه التحالف الوطني ومن ثم "إخوة إيطاليا"، الدولة اليهودية بشكل مؤيِّد للغرب ومعادي للشيوعية، في حين أن غالبية أحزاب الجمهورية الأولى (ليس فقط اليسار الشيوعي والاشتراكي، ولكن أيضا "الديمقراطيين المسيحيين")، كانوا مؤيدين للعرب إلى حد كبير.
أصبحت المواقف المعادية للسامية والمعادية لإسرائيل بشكل تدريجي من صلاحيات الجماعات الفاشية الجديدة الأكثر تطرُّفًا، على الرغم من أنَّها وجدت مساحة لفترة طويلة داخل الدوائر الأكثر حنينًا وشبابًا ِلـ "الحركة الاجتماعية الإيطالية". وبينما أصبح يمين «جورجو أَلْميرانْتي» مؤيِّدًا لأمريكا بشكل متزايد، في إطار الحرب الباردة، أصبح أيضًا داعمًا لإسرائيل بشكل متزايد.
لقد كانت، كما ذكرنا سابقًا، لعبة الكتل الكبيرة التي يكون فيها عدوُّ عدوِّي صديقي. ولكن منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت إسرائيل تُصبح نموذجًا ومختبَرًا، بدأ اليمين الأوروبي والإيطالي ينظر إليه باهتمام متزايد لأسباب داخلية، وليس فقط لأسباب دولية. وهي السنوات نفسُها التي تبتعد فيها مؤسسات يهودية الشتاتَ أكثر فأكثر عن القوى اليسارية والتقدُّمية، تزامناً مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2002. في هذه اللحظة بالذَّات، بالنسبة لليمين العالمي، تم إدراج الحرب ضد الإرهاب الفلسطيني في السيناريو الأوسع للحرب على الإرهاب التي بدأت منذ 11 سبتمبر، أي غزو العراق وأفغانستان. وفي هذا السياق، صعدت دولة إسرائيل إلى واجهة حرب الدفاع عن الغرب ضد ما تدَّعيه "التطرُّف الإسلامي". وأصبحت كراهية الأجانب ومعاداة الإسلام بمثابة الغراء الأيديولوجي الجديد.
وفي هذا السياق، بدأ اليمين الغربي يُفكِّر في إسرائيل كنموذج للديمقراطية غير الليبرالية. يهدف هذا المصطلَح إلى الإشارةِ إلى النظام السياسي الذي، على الرغم من بقائه رسميًا ضمن النظام السياسي البرلماني، حيث تظلُّ ممارسة التصويت والنظام الحزبي، يفرض نظام الضوابط والتوازنات والدستور المادِّي من خلال الانزلاق نحو دولة استبدادية.
لفترة طويلة، كان النَّاسُ يتحدَّثون عن روسيا «فلاديمير بوتين» باعتبارها نموذجاً للديمقراطية غير الليبرالية (والآن نتحدث عنه بشكل مباشر باعتبارها دولة استبدادية، أو نظاماً). وليس من قبيل المصادفة أن قادة اليمين الغربي، من «ماتِّيو سالفيني» إلى «مارين لوبان»، كانيا معجبين به كثيرا. وحتى عبارة "هنغاريا «فيكتور أوربان»"، من بين القيود التي تخضع لها المنظمات غير الحكومية، والتدابير المفروضة على الصحافة والعدالة، هي نموذج للديمقراطية غير الليبرالية.
إنَّ دولة الفصل العنصري التي تُبقي فيها إسرائيل الفلسطينيين في الأراضي المحتلَّة (تشرح منظمة العفو الدولية سبب حديث منظمات حقوق الإنسان عن الفصل العنصري الإسرائيلي هنا)، تجعل منها دولة يوجد فيها مجتمعان متوازيان. أحدهما مُفعمُُ بالحيوية والديناميكية وتجتازه حتى الصراعات المريرة، والأخر يَظلُّ خارج إمكانية التعبير عن حقوقه السياسية والمدنية. بالنسبة لليمين الذي جعل الهويَّة الوطنيَّة والدفاع عنها هو العمل الأساسي لعرضه السياسي، تُعتبَر إسرائيل مثالاً يُحتذى به، حيث تعتمد الوصول إلى حقوق المواطنة على وجه التحديد على معايير تتعلَّق بالهوية والولادة داخل مجموعة قومية أو دينية محددة. وإن الدَّعم المقدَّم لهذه السياسة هو الذي أكسبها "التسامح" مع "الخطيئة الأصلية" المتمثِّلة في معاداة السامية.
ليس هذا فحسب، لأنَّه في السنوات العشرين الماضية ـ حتى مع انهيار احتمال السلام و"شعبين ودولتين" ـ تزايد الثِقَل السياسي لليمين الديني والقومي المتطرف تدريجياً، مع وصول الأحزاب المتعصِّبة بشكل واضح إلى الحكومة بأصوات اليهود الأرثوذكس والمنظَّمات الاستيطانية، مما أدّى إلى مزيد من التطرُّف في حزب اللِّيكود بزعامة «بنيامين نتنياهو». «بيبي» نفسُه، الذي طغت عليه التحقيقات القضائية، في محاولة لإنقاذ سلطته الشخصية، قاد المجتمع الإسرائيلي إلى صدام غير مسبوق حول إصلاح دور المحكمة العليا. ووفقا للمعارضين، فإنَّ إصلاح حكومة اليمين المتطرف من شأنه أن يجعل إسرائيل ديمقراطية استبدادية بالكامل، مما يُزيل أي ثقل موازن للسلطة التنفيذية.
عندما يطلق اليمين الليبرالي اليوم شعارات قديمة الطراز دفاعاً عن "حرِّية الغرب"، من دون أن يضع أي بُنْدٍ على حقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فإنَّه يتظاهر بعدم رؤية الفصل العنصري وحالة الديمقراطية الإسرائيلية المريضَة، حيث يتزايد العنف والتطرف في السنوات الأخيرة. وبدلاً من ذلك، ينبغي الاستماع إلى أصوات القوى الإسرائيلية التقدُّمية التي تدعو إلى احترام حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية وسيادة القانون.