ولا يتعلق الأمر بالدول العربية، التي لم يعد لديها تحيز أو حتى موقف معادٍ لتصرفات الحكومة الإسرائيلية، بل يتعلق بالعديد من الحلفاء الغربيين: في المقام الأول الدول الأوروبية، وبحذر أكبر، الولايات المتحدة.
ويتعلق هذا الانقسام بحقيقة أنه على الرغم من أن الدعم الإسرائيلي للحرب في قطاع غزة لا يزال قوياً للغاية ويحظى بالإجماع عملياً، إلا أن المشاعر والقرب من إسرائيل في الرأي العام وفي العديد من الحكومات حول العالم بعد الهجوم الشرس الذي شنته حماس في 7 أكتوبر ضد في الأراضي الفلسطينية ضد مستوطنين أجانب حاصلين على الجنسية الإسرائيلية من أجل إعمار الأراضي المحتلة شكوكاً قوية متزايدة وعدم تسامح اتجاه الطريقة التي تشن بها إسرائيل الحرب، والتي تسبب معاناة هائلة للمدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة.
وهذه المسافة طبيعية ومفهومة من عدة جوانب، وكانت موجودة دائمًا في العمليات العسكرية الإسرائيلية السابقة: في عام 2014، وهي المرة الأخيرة التي غزا فيها الجيش الإسرائيلي قطاع غزة، أيدت الغالبية العظمى من سكان البلاد الغزو، بينما كانت هناك شكوك كبيرة في بقية العالم. ولكن مقارنة بالماضي، توجد على الأقل ثلاثة عناصر تميز الحرب الحالية في قطاع غزة، والتي تحدد موقف إسرائيل والرأي العام فيها.
بادئ ذي بدء، الصدمة الوطنية الهائلة التي عانى منها هجوم حماس، والتي لا يمكن الاستهانة بها. ثم حقيقة أن هذه الحرب استمرت لفترة أطول بكثير من العمليات السابقة في القطاع: في عام 2014 استمر الغزو البري لمدة أسبوعين، بينما تجاوزنا هذه المرة الشهرين. ثالثاً، المستوى الاستثنائي للعنف المستخدم في العمليات العسكرية الإسرائيلية، والذي يؤثر بشكل غير متناسب على السكان المدنيين.
منذ أكثر من ثلاثة أشهر، يشن الجيش الإسرائيلي حملة قصف على قطاع غزة، والتي تعتبر، بحسب الخبراء، واحدة من أكثر الحملات تدميراً في التاريخ الحديث: تأكد مقتل أكثر من 30 ألف شخص، معظمهم من المدنيين، ويعتقد أن نحو %80 من جميع المباني في القطاع ، بما في ذلك البنى التحتية، دُمّرت. أما نسبة المباني المتضررة والتي أصبحت غير صالحة للسكن أو غير آمنة فهي أعلى بكثير.
علاوة على ذلك، منعت إسرائيل، في الأسابيع الأولى من الحرب، بشكل كامل دخول المواد الغذائية والأدوية والضروريات الأساسية إلى القطاع، مما تسبب في أزمة إنسانية كبيرة. وسمحت لاحقاً بدخول المساعدات الإنسانية، لكن بكميات غير كافية.
تدّعي إسرائيل أن هذه الإجراءت الصارمة ضرورية لتحقيق هدف تدمير حماس، وأن جزءًا على الأقل من الوفيات يرجع إلى حقيقة أن حماس تستخدم المدنيين "كدروع بشرية"، وهي ممارسة جرت مشاهدتها بالفعل والتحقّق منها في أكثر من مناسبة من قبل المنظمات غير الحكومية والهيئات المستقلة وجرى تكذيبها وما يزكي هذا الادعاء هو استهداف جيش الاحتلال الصحفيين العاملين هناك وقتل أكثر من 103 فرد منهم..ولكن في الوقت نفسه، حتى لو استخدمت فصائل المقاومة استخدامًا مكثَّفًا "للدروع البشرية" من جانب حماس لا يُبرّر الخسائر الفادحة والدمار الهائل الذي يحدث داخل قطاع غزة.
ولهذا السبب أيضاً يظهر الرأي العام في العديد من دول العالم عدم تسامح متزايد اتجاه الحرب في غزة. بعد الأيام الأولى من المشاعر العاطفية بشأن هجوم 7 أكتوبر، تراجع التأييد لإسرائيل في كل مكان في الرأي العام الأوروبي، ثم انخفض مع تقدم الحرب.
ويأتي استطلاع بارز من إيطاليا، حيث في 4 نوفمبر 2023 (عندما كان الغزو البري الإسرائيلي قد بدأ للتو) يعتقد %45.8 من المشاركين أن رد فعل إسرائيل كان "مفرطًا". وبعد أيام قليلة، في 11 نوفمبر، ارتفع الرقم إلى 55.1 بالمئة. وحتى الرأي العام الأميركي، الذي يعتبر إلى حد بعيد الأكثر تأييداً لإسرائيل بين الدول الغربية، بدأ يظهر علامات نفاد الصبر.
ويستمر السكان في دعم إسرائيل بنسبة تزيد على %50، لكن نسبة الذين يعتقدون أن العمليات العسكرية على القطاع مفرطة في تزايد مستمر. وهذا يتعلق بشكل خاص بالشباب الأميركيين وأنصار الحزب الديمقراطي.
ونشهد موقفاً مماثلاً مع الحكومات الغربية، حيث أفسح الدعم غير المشروط تقريباً لإسرائيل في أكتوبر المجال أمام موقف انتقادي متزايد ودعوات متزايدة الإصرار لوقف إطلاق النار. وحتى «أنتوني بلينكن»، وزير الخارجية الأمريكي الذي يمثل أقرب حليف لإسرائيل، قال هذا الأسبوع إن "حصيلة القتلى اليومية في غزة، وخاصة الأطفال، مرتفعة للغاية".
عرّف «جدعون ليفي» (Gideon Levy)، وهو معلق سياسي إسرائيلي، في صحيفة "هآرتس" التي تنتمي إلى يسار الوسط، الصراع الحالي بأنه "الحرب بالإجماع" الأولى التي تخوضها إسرائيل: "لم نشهد قط حربًا كهذه، حرب إجماع كامل، حرب صمت تام، حرب الدعم الأعمى؛ حرب بلا أسئلة، بلا احتجاجات، بلا اعتراضات ضميرية، بلا معارضة، لا في البداية ولا في المنتصف. حرب بالإجماع، بموافقة كاملة – باستثناء مواطني الدولة العرب، الذين مُنعوا من الاعتراض – من دون علامات استفهام ولا حتى أدنى شك”.