هل أصبحت فرنسا ولاية جديدة من الولايات المتحدة أمريكية؟ - الإيطالية نيوز

هل أصبحت فرنسا ولاية جديدة من الولايات المتحدة أمريكية؟

  الإيطالية نيوز، الثلاثاء 12 ديسمبر 2023 – "فرنسا دولة أمريكية جديدة."  نعم هذا هو الوصف المناسب لسياسة باريس خلال العقدين الأخيرين، منذ رئاسة «نيكولا ساركوزي» (Nicolas Sarkozy) إلى الرئيس الحالي «إيمانويل ماكرون» (Emmanuel Macron)، حيث خسرت فرنسا كل مبادرة سياسية في العلاقات الخارجية وأصبحت مجرد تابع ومطيع لمبادرات واشنطن. وقد تفاقم هذا الأمر بعد عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023.


منذ الحرب العالمية الثانية، نجحت فرنسا، في عهد رؤساء مثل «شارل ديغول» و«جاك شيراك» (Jacques Chirac)، في احتلال مكانة خاصة لنفسها في العلاقات الدولية. وعلى الرغم من انتمائها للغرب، إلا أنها ظلت دائما تبتعد عن السياسات التي تنتهجها الدول الأنجلوسكسونية، وخاصة الولايات المتحدة، وفضلت تمييز نفسها من خلال القرارات المستقلة التي سببت لها مشاكل كبيرة مع شركائها الغربيين. وتمتعت فرنسا باحترام كبير خلال رئاسة «جاك شيراك»، خاصة في حرب العراق، عندما وقف وزير خارجيتها آنذاك «دومينيك دو فيليبان» (Dominique de Villepin) في مجلس الأمن منتصف فبراير 2003 ضد واشنطن ولندن ونفى أن يكون للعراق علاقة بتنظيم القاعدة أو امتلاك أسلحة كيماوية، رافضًا الحرب على هذا البلد العربي. وحذر من أن "اللجوء المبكر إلى الخيار العسكري يكون محفوفا بالمخاطر (...) مثل هذا التدخل يمكن أن يكون له عواقب لا تحصى على استقرار هذه المنطقة الهشة والممزقة". وقد رأى العالم حقيقة هذا التحذير عندما تم تدمير العراق وقتل مليون من شعبه، وخروج الجماعات المسلحة والإرهابية منه، وبذلك وضع الشرق الأوسط في واحدة من أسوأ الفترات في تاريخه الحديث.


كما اكتسبت فرنسا احترام الفلسطينيين، لأن موقف باريس كان أن أمن إسرائيل مرتبط بحقوق الفلسطينيين، وقد رفع «شيراك» هذا الشعار طوال مسيرته السياسية، خاصة عندما كان وزيرا أولا ثم رئيسا للجمهورية. لكن فرنسا الرسمية بدأت تفلت من استقلالها نحو الانخراط في دعم السياسة الأميركية والإسرائيلية بشكل ملحوظ، وهو ما بدأ منذ تولي «نيكولا ساركوزي» منصبه في البلاد، الذي كان صهيونيا في مواقفه.


ثم انتقلت البلاد إلى مرحلة التراجع الصامت خلال رئاسة «فرانسوا هولاند» ( Francois Hollande)، فيما يبدو «إيمانويل ماكرون» وكأنه عضو في حزب الليكود وليس رئيس دولة أوروبية. تنقل الصحافة الفرنسية، بما فيها صحيفة "لوموند"، مدى القلق الذي يسود في أوساط الدبلوماسية والاستخبارات الفرنسية بشأن سياسة «ماكرون» المتورطة في خطط رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»فمن ناحية، يرون كيف أن فرنسا تفقد كل مصداقيتها لدى الدول العربية، وحتى أمام جزء من العالم، وما قد تنجم عنه من أعمال إرهابية في المستقبل من هذه المواقف ضد المصالح الفرنسية. ويؤكد خبراء الدبلوماسية والاستخبارات في باريس أن موقف فرنسا كان ينبغي أن يكون دفاعا عن الهدنة ووقف إطلاق النار، بدلا من دعم حرب اتخذت مسار الإبادة الجماعية. لكن الرئيس «ماكرون» قرر تبني مواقف مختلفة. ومن كان يظن أنه يدعو إلى تحالف دولي لمواجهة حماس، على غرار التحالف لمواجهة داعش، رغم اختلاف السياق السياسي والتاريخي. ويشير هذا الموقف إلى ازدراءه للتاريخ الدبلوماسي والاستخباراتي الفرنسي، حيث تصر الدبلوماسية والاستخبارات على ضرورة قيام باريس بدور الوسيط والمحاور بين الغرب والفلسطينيين. ومن كان يظن أنه يتراجع عن الصمت بعد تحذير إسرائيل من أن تصريحاته لقناة "بي بي سي" البريطانية بشأن ضرورة تجنب سقوط ضحايا من المدنيين غير مناسبة، عندما شهد «ماكرون» كيف تقصف إسرائيل المستشفيات والمدارس بطريقة همجية؟ من كان يظن أن رئيس فرنسا، الذي يدافع عن العلمانية، يسمح عشية اليوم الوطني للعلمانية (الخميس الماضي) الذي يحتفل به وفقا للقانون 1905، بإضاءة الشمعدان بمناسبة عيد الأضواء اليهودي (الحانوكا) وسط قصر الإليزيه، تخليدا لذكرى المستوطنين الذين استشهدوا في عملية طوفان الأقصى، متجاهلا مقتل أكثر من 18 ألف فلسطيني، غالبيتهم من الأطفال.؟


وعلق المحلل السياسي «جان بيير بيرين» (Jean-Pierre Perrin)، بأن الوقت لم يكن مناسبا لمثل هذا الاحتفال، مشيرا إلى أن “مبدأ الفصل بين الدين والسياسة في فرنسا مقدس للغاية، ولا يجوز انتهاكه وليس له استثناءات مهما كانت الظروف .


وحقيقة الأمر أن تصرفات «ماكرون» ليست مفاجئة، فهو رئيس يفتقر إلى النضج السياسي العميق. لقد فقد تراث فرنسا الدبلوماسي، ولم يتردد حتى فيما يعتبره الخبراء الفرنسيون خيانة لبلاده عندما قام عام 2014، عندما كان وزيرا في حكومة «فرانسوا هولاند»، ببيع الشركة الأميركية "جنرال إلكتريك" للطاقة التابعة لشركة "ألستوم" الفرنسية: هي شركة تصنع توربينات الغواصات النووية والأجزاء الحساسة في الصناعة النووية وأصبحت الآن رهينة للسياسة الأمريكية.


كما أنه باع بيانات فرنسية لشركات أميركية، وهذه الملفات تحت أنظار القضاء. الحديث عن تراجع فرنسا على المستوى الدولي يعني الحديث عن ضعف الرؤساء الذين حكموا الجمهورية من «ساركوزي» إلى «ماكرون»، وبدوا وكأنهم منتج تسويقي سياسي رخيص، حيث افتقرت باريس معهم إلى الاستقرار في رؤيتها للعديد من القضايا العالمية. وأصبح الشغل الشاغل لهؤلاء الرؤساء هو إرضاء الولايات المتحدة، بعد أن غضبت بشدة من باريس بسبب موقف «جاك شيراك» من حرب العراق. ورغم أن هؤلاء الرؤساء تحدثوا عن الحاجة إلى تعزيز دور فرنسا ودور الاتحاد الأوروبي على الساحة السياسية العالمية، إلا أنهم نفذوا سياسة معاكسة.


 علاوة على ذلك، أعرب مسؤولون فرنسيون، بينهم وزير الخارجية السابق «دومينيك دو فيلبان»، ومدير المخابرات الخارجية «آلان جوبيه» (Alain Juppe)، عن خيبة أملهم من تراجع فرنسا وخضوعها للولايات المتحدة، ويعتقدون أن الرئيس الحالي «ماكرون» قد طفح الكيل. لذلك، ليس من المبالغة القول إن الأمر كما لو أن «ماكرون» عضو في حزب الليكود الإسرائيلي أو جعل من فرنسا «ولاية أميركية جديدة»، هذه المرة في قلب أوروبا.