هذا الزمن الذي يتدفّق بمهارة شديدة على لسان طفل، فتأتي اللّغة بمهارة الطفولة والشباب والرجولة، ناضجة، عميقة، سهلة وبسيطة للغاية. لغةُُ تنم عن دراية كبيرة وتمكّن من تقنيات السرد وقواعد الحكي الموصول بحبال التشويق التي تشدُّ القارئ ولا تتركه إلا عند عتبة المقام الأخير، فيعود محمَّلاً بعنبر الذكريات. [الأهم من هذا وذاك تلك الروح التي توشم الجو وتشعرنا بأننا في طقس غير بشري " ...]
قريبًا ترى النور متوالية "مقامات زمن العنبر " للأديب «محمد عبد الوارث» لتضع سجلاً جديداً، ليس فقط بين سجلات إبداع الكاتب، الذي صدرت له كتابات عديدة، آخرها المجموعة القصصية "خمس ملاعق صغيرة للغيب" السنة الماضية، ولكن أيضا بين سجلات الأدب الحامل للزمان وعبق المكان. وكما تجري به العادة، يأخذنا الأديب «عبد الوارث» بين تموّجات الزمان والمكان حيث روح الزمن ومتغيرات الواقع، ليضعنا بين ملامح الإسكندرية القديمة التي غيّر الزمان ملامحها، إلى درجة لم يبقى فيها إلا مقامات من العنبر الساكن بين دروب الروح.
الزمان والمكان: بدا لي عند قراءة المتوالية أن الكاتب أدرك التمكن من صناعة الزمان والمكان فأتت السجلات الزمنية كخرائط ذهنية لما كانت عليه الإسكندرية، بالأخاص مكان النشأة الأولى التي لايزال الأديب يحتفظ بالذكريات المرتبطة بها.
المتوالية ملوَّنة بالتنوّع الثقافي والتعدّد الدّيني والثراء الذي تفرّدت به مدينة الإسكندرية العريقة، وليس ذلك فقط، بل حمّلها أيضا بسجل سياسي عن واقع مصر مروراً بفترات تاريخية مهمة. هذه الفترة السياسية تنطلق مع أخذ الرئيس «جمال عبد الناصر» زمام الحكم، ثم يعقبه «أنور السادات». لكشف ملامح هذه الفترة، برز طفل يسرد في بعض المقامات التاريخية التي حددت وجه مصر السياسي: "لذلك أصبح أغلبنا من صبيان الحي بارعين في عبور السكة الحمراء مع قليل من الحذر، وعندما تواتر الخبر بأن الرئيس جمال عبد الناصر سيمر من محطة قطار "سيدي جابر" التي لاتزال محتفظة بطابعها القديم تزدان باللافتات والأعلام، كنا نهرع إلى السكة الحمراء فنرى الناس متجمهرة على الجانبين". بعد ذلك، ينتقل الكاتب إلى وصف الشارع والنوافذ والحشود والهتافات..ولحظات عبوره السكة الحمراء مع صديقيه «ميمي جروبي» و «حوده».
يسافر الكاتب «محمد عبد الوارث» في مراحل العمر، فيأخذنا معه في مغامرات المراهقة والشباب ولمسات العيون والأسرار الصغيرة الكبيرة وأسرار البنات التي لم يكن يعرف منها إلا بعض النظرات الخاطفة بينه وبين «كيتي»، إبنه الجيران المسيحية، ذلك الكائن الجميل والتي بقت في وجدانه كأنها لحظات نورانية.
إلا أن عجلة الحياة لا تتوقف ويأخذ نا الكاتب إلي مقامات أخرى مروراً من طفولته إلي صباه وحبه. تاريخية أخرى بعد وفاة الرئيس «ناصر» وتولى «السادات» الحكم ..يتعمق الكاتب في تفاصيل فتح الأبواب للجماعات الدينية وبدأ ظهور الجلباب الأبيض واللحية. تلك الفترة الهامة من التغير الأيديولوجي لمصر وكيف أن صديقة «ميمي جروبي» رفيق الطفولة هو أول من أطلق لحيته ولوّن كلماته بالعبارات الدينية والآيات القرآنية وتنكر لإسم «ميمي» وبدأ يطارد «حمادة» في حبه للفتاة المسيحية التي ملأت قلبه ..
أما في قصة "صفير الزمن" وهي القصة الثانية عشر من المتوالية يرسم الكاتب أواخر الستينيات، وكبري القبة، حيث شذى المكان والزمان وروعة السرد المحمل بعبير العنبر .
يقول ..[سجادة الليل موشاة بخرز متواتر الضوء والكروان يبث دعاءه عل من يسمع يلهج بالثناء، بين الفينة والأخرى يسطع في الأفق مذنب يحترق لا أعلم في أي مكان يسقط، تاركا النفس مشدوهة لعل لحظة إبصار خاطفة تذكر الرائي بمن خلق ...] حيث يعيدنا الي مصر الحبيبة وعالم السينما، زمن فيلم "دعاء الكروان"، «فاتن حمامة» وصفير ذلك الزمن البعيد الذي بدأ يتلاشى أصلا من القلوب العالقة في "زمن العنبر".