كان «إيمانويل ماكرون» هو من أوكل هذا المشروع إلى «ستورا»، بعد أن وعد مطلع عام 2020 بتسوية عواقب وأضرار قضية الحرب الجزائرية، مستحضرًا الخطاب الذي اعترف فيه «جاك شيراك» عام 95 بمسؤولية الدولة الفرنسية في المحرقة. وُلد «بنيامين ستورا» في قسنطينة، في شمال شرق البلاد، من عائلة يهودية، ووصل إلى فرنسا عام 1962، وكطالب، شارك في 1968 من بين صفوف التروزكيين، قبل أن يلقي بنفسه في البحث التاريخي عن كل ما يتعلق ببلده الأصلي ويصبح أحد الباحثين الأكثر احترامًا وغزير الإنتاج في هذا المجال.
من خلال هذا التقرير، يأمل «ماكرون» أن يضع الأسس ليتمكن من الخروج من "التشاركية في الذكريات" التي دفعت كل الجماعات المشاركة في الحرب إلى "الانغلاق على معاناتهم دون الاعتراف بمعاناة الآخرين". سواء كانوا جزائريين أو جنود فرنسيين أو "الأقدام السوداء"، مصطلح يُستخدَم عامية للإشارة إلى فرنسيي الجزائر الذين رُحّلوا الذين إلى وطنهم منذ عام 1962 أو "حَرْكيين" (هم نوعان: الفئة الأولى وهم من الجزائريين الذين كانوا مجندين في صفوف الجيش الفرنسي إبان الثورة الجزائرية 1 نوفمبر 1954- 5 جويلية 1962 استعملتهم فرنسا من أجل قمع المجاهدين الجزائريين والتجسس عليهم، حيث عند انطلاق الثورة التحريرية كانوا ملزمين بإتمام الخدمة الوطنية في الجيش الفرنسي، والفئة الثانية هم مجموعة من الجزائريين اختاروا الانضمام إلى الجيش الفرنسي طواعية)، أو أبناء الهجرة الجزائرية.
تتراوح مقترحات التقرير من إنشاء لجنة "الذاكرة والحقيقة"، إلى إعطاء دفعة جديدة لمشاريع مثل مرشد المفقودين، للعثور على جثث الرجال الذين اختفوا خلال الحرب. بالإضافة إلى الأعمال الرمزية، مثل إنشاء مسلّة مخصصة للأمير «عبد القادر»، الذي حارب الغزاة الفرنسيين. كما يدعو «ستورا» فرنسا إلى التعرف على عواقب التجارب النووية، وجعل أرشيفها متاحًا، وإعطاء مساحة أكبر لتاريخ الاستعمار وحرب الجزائر في الكتب المدرسية.
الإنتقادات الموجهة إلى التقرير انطلقت فورا
قبل كل شيء في الأرشيفات، التي طالبت الجزائر دائمًا بإعادتها كاملة ولكنها في الواقع تجعل البعض يشعر براحة لبقائها في المستودعات السرية في فرنسا: حتى الآن، الوثائق القليلة الموجودة حول الحرب خلال الفترة الاستعمارية لفرنسا في الجزائر لا يمكن الوصول إلى معظمهما أو وأنها مصنَّفة وأن باريس لا تتجاوب مع هذا الملف بطريقة أفضل وأيسر، وهو ما يستنكره باحثون في هذا الموضوع. قد يؤدي فتح الأرشيف إلى تسليط الضوء على العديد من الجرائم والضربات الخافتة والأسرار من كلا الجانبين، ولكنه سيبدد أيضًا العديد من الأشباح الشخصيات الأشباح (شخصيات فرنسية بارزة وعملاء جزائريين يديرون السلطة) التي تغذي الأحقاد. وأشار الباحث «ستورا» إلى وجود حيرة أخرى، وهي قرار فرنسا الرافض تماما لفكرة "الاعتذار" عن جرائم الإستعمار والحرب اللاأخلاقية التي مارسها عساكرها على التراب الجزائري.
من هذا المنطق قدّم «ستورا» سلسلة مقاربات مهمة. فقد اقترح تكوين لجنة مشتركة «ذاكرة وحقيقة» تعتمد على المؤرخين، تختص في البحث عن الحقيقة، وتقدم سلسلة من المبادرات لتخطي معوقات الصمت. المشكلة الوحيدة هي، إلى أي مدى تكون اللجنة مستقلة من الجهتين ويسمع لمقترحاتها؟ لم يفت التقرير الإلحاح على تثبيت بعض التواريخ التي تجمع بين الشعبين، كالاحتفالات الرمزية: اتفاقيات إيفيان، ومظاهرة أكتوبر في باريس، والحركى. على الرغم من أن مسألة الحركى هي مسألة فرنسية – فرنسية وحلها يخص فرنسا، لكن امتداداتها في الجزائر كبيرة. لا يمكن منع الفرنسيين من الاحتفال بيوم الحركى في 25 سبتمبر، لكنه من المستحيل رؤيته من نفس الزاوية. هؤلاء كان دورهم قاسياً على شعبهم. من الصعب أيضاً تسهيل السفر للحركى وأبنائهم، بين البلدين. إذا كان الأمر عادياً بالنسبة لأبنائهم، إذ ليس للأبناء أن يدفعوا ثمن أخطاء آبائهم، سيكون الأمر صعباً بالنسبة للحركى. يذكّرنا هذا الأمر بما حدث في فرنسا مع «الكولابو Les colabos» ومطاردتهم من خلال موجة التصفية vague d’épuration في الأربعينيات التي اشترك فيها الجنرال «شارل دوغول» (Charles de Gaulle) نفسه عندما رفض العفو على الكاتب والصحفي والناقد السينمائي، «روبرت برازياك» (Robert Brasillach) مثلاً، المتهم بالخيانة والتعامل مع النازية، على الرغم من مناشدة كبار المثقفين. هذا الأمر يحتاج حقيقة إلى وقفة تأملية. ما حدث للحركى، في ظل فوضى الاستقلال الجزائري وتخلي الفرنسيين عنهم، كان درامياً، لكن من الصعب نسيان ما فعلوه في شعبهم. بين وضعية المتعاون ووضعية الخائن، يصعب الاتفاق.
ما قدّمه التقرير من مقترحات كإعادة سيف الأمير، والبحث في مصير مدفع «بابا مرزوق» الذي تم استعماله للدفاع عن ميناء الجزائر عام 1830 وحجزته فرنسا قبل أن تنصبه في ميناء "بريست"، والاعتراف باغتيال المناضل «علي بومنجل» في 1957، والاهتمام بمقابر المسيحيين واليهود، على أهميتها الرمزية، ليست اقتراحات ذات قيمة استراتيجية، فهي تحصيل حاصل، لأن استرجاع سيف الأمير ومدفع «بابا مرزوق»، يمكن أن يحدث من خلال اتفاقية ثنائية في شكل هدية أو ما شابه ذلك، والاعتراف باغتيال «علي بومنجل»، وحتى تعذيب واغتيال الشهيد «العربي ابن مهيدي» الذي لم يذكره التقرير، لم يعد سراً. فقد اعترف الجنرال «بول أوسارس» (Paul Aussaresses) في مذكراته بذلك، وكان مسؤولاً في القيادة العسكرية الفرنسية في معركة الجزائر. كان أجرأ من الإيتابلشمنت الفرنسي. بالنسبة لقضية المقابر المسيحية واليهودية، سبق أن أصدر منذ سنوات الرئيس الجزائري السابق «عبد العزيز بوتفليقة»، أمراً بذلك وتم ترميمها، والممثل القدير «روجي حنين» الذي طلب أن يدفن في الأرض التي ولد فيها وأحبها، كان له ذلك، ودفن بشكل يليق بقيمته الفنية والثقافية في الجزائر. من المقترحات المهمة، نشر "دليل للمفقودين" الجزائريين والأوروبيين خلال النزاع) وإجراء أبحاث حول التجارب النووية الفرنسية في الصحراء وتداعياتها، وقضية استعادة بعض الأرشيف، ورفع السرية عن الوثائق، وإعادة تفعيل مشروع متحف تاريخ فرنسا والجزائر، الذي كان من المزمع إقامته في "مونبلييه"، وغيره. السؤال الكبير: هل هذه الاقتراحات كافية لإزالة الضغائن والأحقاد التاريخية؟ يكفي أن نتأمل ما حدث من ردود فعل في فرنسا بعد الإعلان عن التقرير. فقد كان رد فعل اللوبي الاستعماري سلبياً، وبدل التنبه للتقرير ومعالجة نقائصه، تم تحريك النقاش باتجاه آخر حول النظام الجزائري، وتقتيل الحركى، وصراعات الحركة الوطنية، غيرها من المهارب. الجزائر الرسمية ظلت غائبة وكأن الأمر لا يعنيها، وهذا أفدح.