بقلم الكاتبة: مرام سعيد أبو عشيبة
الحمد لله الذي أنار بالقرآن قلوبنا، الحمد لله الذي جعله منهاجاً لحياتنا، الحمد لله الذي سخر للأمة من يفسر لها كتابها أمثال الإمام البقاعي، فقد عرف به الزركلي وابن العماد في كتابيهما فهو إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي، أبو الحسن برهان الدين، مؤرخ أديب أصله من البقاع في سورية، وسكن دمشق ورحل إلى بيت المقدس والقاهرة، وتوفي بدمشق له عدة مؤلفات منها: (عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران) أربع مجلدات، (أسواق الأشواق) اختصر به مصارع العشاق،و(نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) سبع مجلدات،و(مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور)، واشتغل بالنحو، والفقه، وغيرهما من العلوم، وتوفي بدمشق في رجب سنة 885 ه عن ست وسبعين سنة.
لقد اهتم البقاعي وأولى عنايته بالدلالات اللغوية كالدلالة النحوية والمعجمية والصرفية وغيرها عند تفسيره للآيات القرآنية في تفسيره المعروف بنظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، فالصرف كما يقول الحملاوي في كتابه شذا العرف، والصرف اصطلاحا بالمعنى العملي: تحويل الأصل الواحد إلى أمثلة مختلفة، لمعان مقصودة، لا تحصل إلا بها، كاسمي الفاعل والمفعول، واسم التفضيل، والتثنية والجمع، إلى غير ذلك، وبالمعنى العلمي: علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلمة، التى ليست بإعراب ولا بناء، وموضوعه: الألفاظ العربية من حيث تلك الأحوال، كالصحة والإعلال، والأصالة والزيادة، ونحوها، واستمداده: من كلام الله تعالى، وكلام رسوله ءصلى الله عليه وسلمء، وكلام العرب.
لقد وقع الاختيار على نموذج من الدلالة المعجمية والصرفية عند البقاعي واهتمامه بها: فالدلالة المعجمية كما يقول أحمد مختار في كتابه علم الدلالة:" بيان المعاني المفردة للكلمات وتعرف باسم المعنى المعجمي"، فمن الملاحظ أن البقاعي قد أحسن وبرع وأبدع وأتقن في تتبع التطور الدلالي المعجمي للفظة "كظيم" ومادتها اللغوية بجانب دلالتها الصرفية في قوله تعالى:(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (سورة يوسف:آية84).
فقال: {كظيم } أي شديد الكظم لامتلائه من الكرب، مانع نفسه من عمل ما يقتضيه ذلك من الرعونات بما آتاه الله من العلم والحكمة، وذلك أشد ما يكون على النفس وأقوى ما يكون للحزن، فهو فعيل بمعنى مفعول، وهو أبلغ منه، من كظم السقاء إذا شده على ملئه، ومادة «كظم» تدور على المنع من الإظهار، يلزمه الكرب؛ لأنه من شأن الممنوع مما قد امتلأ منه، ويلزمه الامتلاء، لأن ما دونه ليس فيه قوة الظهور، كظم غيظه إذا سكت بعد امتلائه منه، وكظمت السقاء إذا ملأته وسددته، وكظم البعير جرته إذا ردها وكف، والكظم: مخرج النفس؛ لأنه به يمنع من الجري في هواه؛ والكظامة: حبل يشد به خرطوم البعير، لمنعه مما يريد، وأيضاً يوصل بوتر القوس العربية ثم يدار بطرف السية العليا، منعاً له من الانحلال وأيضاً قناة في باطن الأرض يجري فيهما الماء؛ لأنه يمنع الماء من أن يأخذ في هواه فيرتفع في موضع النبع فيظهر على وجه الأرض، وخرق يجري فيه الماء من بئر إلى بئر؛ لأنه لا يصنع إلا عند ضعف إحدى البئرين، فلولاه لفاضت القوية، فهو تصريف لمائها في غير وجهه، وكظامة الميزان: المسمار الذي يدور فيه اللسان، لأنه يربطه فيمنعه من الانفكاك، ويقال: ما زلت كاظماً يومي كله، أي ممسكاً عن الأكل وقد امتلأت جوعاً، وقد يطلق على مطلق النبع، ومنه كاظمة لقرية على شاطىء البحر، لأن البحر قد كظمها عن الانفساح وكذا هي منعته عن الانسياح.
فانظر أيها القارئ كيف ساق البقاعي المفسر المعاني اللغوية للفظة "كظيم" ومادتها التي تدور عليها فهي تدور على المنع من الإظهار كما تحدث عن وظيفتها اللغوية التي تعبر عن معانيها، فمن أراد الاطلاع فليرجع إلى كتب المعاجم وليرى كيف تتبعت المعاجم اللغوية تطور هذه الكلمة، فالمعجم كما عرفه أحمد مختار في كتابه البحث اللغوي عند العرب بأنه: "كتاب يضم بين دفتيه مفردات لغة ما ومعانيها واستعمالاتها في التراكيب المختلفة، وكيفية نطقها، وكتابتها، مع ترتيب هذه المفردات بصورة من صور الترتيب التي غالبًا ما تكون الترتيب الهجائي".