بقلم: لينا كنوش
في حادث سير وقع بدايةَ شهر أغسطس في إيطاليا، قُتل ستة عشر مهاجراً أفريقياً، يعمل جميعهم في جمع الطماطم، لكن التغطية الإعلامية للقضية اختلفت كلّياً عن تغطية بيع مواطنين من أفريقيا في المزاد العلني في ليبيا قبل بضعة أشهر.
في الواقع، وبعد المأساة التي ضربت العمال الفلاحيّين في حقول الطماطم في منطقة فودجا، تَركّز النقاش الإعلامي حول ظروف عمل المهاجرين في أوروبا، ما كشف نظام تشغيل هشّاً يمرّ عبر وسطاء، ويشمل مستوى أجور ضعيفاً للغاية يُشجّع على ظهور العبودية. لكن في الحالة الليبية، صوّر الخطاب المهيمن ممارسات العبودية الصادمة على أنها إرث حيّ من الماضي في مجتمع عبودي وبرابري.
في الحالة الأولى، تأسّست الآراء على مقاربة فردانية تُركّز على تحسين الإطار المعياري لضمان حقوق العمال الإنسانية، من دون مساءلة الملمح البنيوي لنظام اقتصادي معولم ينتج أشكال عبودية جديدة. أما في الحالة الثانية، فقد تحدثت الأغلبية الساحقة من الصحافة العالمية عن ممارسات عبودية ضمن رؤية جوهرانية، ترى العبودية كاستمرار تاريخي تعود أصوله إلى تخلّف الحضارة العربية ـــ الإسلامية.
ويكشف هذا الحَوَل في تغطية شكلَي الاستغلال عجز النظام الإعلامي عن استيعاب أشكال العبودية الجديدة، وابتذاله لعنف العلاقات الاجتماعية المرافِقة للمنطق المالي للسوق والربح. يتطابق ظرف موت العمال الفلاحيّين المهاجرين في إيطاليا، بعد اصطدام الشاحنة التي تنقلهم إلى الحقول مع شاحنة طماطم، مع ظروف العمال غير النظاميين في مزارع فلوريدا، الذين ينالون أجراً مقابل كل قطعة عمل يقلّ كثيراً عن الأجر الأدنى القانوني، ويعيشون في ملاجئ محرومين من الماء والكهرباء وإمكانية التداوي.
في إيطاليا، تتيح الهشاشة المتنامية للمهاجرين إمكانية استغلالهم على أيدي بعض «الكابورالي» ـــ وهم مستغلون فلاحيّون مرتبطون في أحيان كثيرة بشبكات المافيا ـــ لفرض ظروف عمل شاقّة عليهم، ومنحهم أجوراً هزيلة. أما في فلوريدا، فقد تناول الصحافي باري إستبروك، في نص نُشر عام 2011، النظام الفلاحي ـــ الصناعي في الولايات المتحدة، وظروف عيش العمال المهاجرين، ولاحظ أن هؤلاء مُعرَّضون لتعسّف الوسطاء الذين يشرفون على فرق عملهم، ويفرضون عليهم أسعار إيجار منازل باهظة، ومصاريف طعام مرتفعة، ومبالغ أخرى مهمة مقابل المنتجات الاستهلاكية اليومية، ما يوقعهم في دائرة التداين.
ويخضع هؤلاء العبيد الحديثون لمراقبة شديدة وأشكال عنف قصوى، من دون إمكانية فرض احترام حقوقهم التي يُعترف لهم بها نظريّاً. مع ذلك، فإن تدهور ظروف عيش وعمل هذه اليد العاملة ليس وليد الصدفة، بل نتيجة مباشرة لمنطق نظام الاستغلال المندرج ضمن سياسات واعية لإدارة البشر. ففي حين تسخط الصحافة عقب حادثة تراجيدية معينة، من خلال الإحالة إلى وحشية هذه الأشكال من الاستغلال الاقتصادي وآثارها، نادراً ما يوضع العنف البنيوي للنظام الرأسمالي النيوليبرالي المعولم موضع التساؤل. وتكمن المفارقة الفاضحة اليوم في التقدم البارز لحقوق الإنسان على المستوى المعياري، وتجريم العبودية باسم احترام الكرامة البشرية، وفي موازاة ذلك تعميق ميكانيزمات الاستغلال والسيطرة التي تتخفّى وراءها الأشكال الجديدة للعبودية، والتي هي نتاج لتطور النظام الاقتصادي العالمي.
أما ما يُقدّم اليوم على أنه انحراف صادم في أوروبا والولايات المتحدة، وما يُقدّم كإرث حيّ للتاريخ البرابري للحضارات الأخرى الأدنى درجة، فهو ليس أكثر من تعبير عن وحشية العولمة الرأسمالية وميكانيزماتها الاستغلالية. يجب أن يترافق الصراع على المستوى المعياري لإلغاء الاعتداأت الأساسية على الكرامة البشرية مع تفكير عميق في النتائج المأساوية لتطوّر النظام الرأسمالي النيوليبرالي، والجهاز المؤسّسي والثقافي المرافِق له.
لكن ضمن الأرثوذوكسية الأيديولوجية ـــ السياسية المهيمنة، غالباً ما يتمّ ربط الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة بالحرية، وليس بتسليع العلاقات الاجتماعية وتجريد الشعوب من إنسانيتها. وفيما يتعرّض الفكر النقدي الذي يلقي الضوء على الملمح البنيوي لنظام قاد إلى تطبيع العبودية الحديثة للتشكيك، يُحتفل بالتنافسية والإنتاجية والحركية بوصفها الخصائص الأساسية للحداثة والتقدم.