إيطاليا الإسلامية: قصة صعود وانهيار الحكم الإسلامي في صقلية - الإيطالية نيوز

إيطاليا الإسلامية: قصة صعود وانهيار الحكم الإسلامي في صقلية


عقب سيطرة المسلمين الأوائل على شمال إفريقيا، نقل الحكّام العرب أبصارهم إلى شمال البحر المتوسط، ولم تكن الأندلس أولى محطات الجيوش الإسلامية، بل كانت الجزر والسواحل الإيطالية، نظراً لقربها من سواحل تونس وليبيا.
يسجل المؤرخ عزيز أحمد، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة تورنتو الكندية، مراحل وصول الإسلام إلى السواحل الإيطالية منذ عصر الخلفاء الراشدين إلى مرحلة انهيار الحكم الإسلامي في إيطاليا على يد الغزو النورماندي، وذلك في كتابه "تاريخ صقلية الإسلامية".
في بداياتها، لم يكن هدف الغارات الإسلامية تمدد السيطرة الإسلامية إلى ما يعرف اليوم بجمهورية إيطاليا، ولكن أتت بغرض إثبات الوجود أمام روما، وأيضاً من أجل كسب الغنائم والأسرى، إذ كانت المعركة الرئيسية للمسلمين مع أوروبا تتمثل في مواجهة الإمبراطورية البيزنطية. ولاحقاً، بدأ المسلمون يخططون بشكل جاد لغزو جنوب ووسط وغرب القارة الأوروبية.
وسجلت سواحل صقلية أولى الغارات الإسلامية، عام 652، في زمن الخليفة عثمان بن عفان، حين مكثت القوات العربية بعض الوقت قبل أن ترحل محملةً بالغنائم.

إمارة باري... دولة مجهولة في تاريخ الإسلام

مع ضعف السلطة المركزية للدولة العباسية، بدأت الحملات الإسلامية على الأراضي الإيطالية تستقل عن صانع القرار في بغداد.
وفي هذه الظروف، استطاع الأمير خلفون، بقيادة جيش من العرب والبربر، السيطرة على مدينة باري، مؤسساً إمارة باري عام 847، وذلك دون اتفاق مع الحكام العباسيين أو الأغالبة، حكام شمال غرب إفريقيا آنذاك، والذين كانوا قد سيطروا على صقلية، جنوب باري.

وتتضارب الروايات التاريخية حول أصول خلفون العرقية، ولكن الثابت أنه مسلم، وأن إمارة باري كانت دولة إسلامية.
وقيل عن خلفون إنه من البربر وإن إمارة باري كانت صناعة بربرية خالصة، بينما تقول روايات أخرى إنه عربي من عشائر ربيعة، فيما تذهب رواية ثالثة إلى اعتباره من مسلمي إيطاليا وترى أنه كان حاكماً إيطالياً خالصاً.
ومن النادر أن تجد ذكراً لإمارة باري عند المؤرخين المسلمين، وقد اهتم برسم ملامح تاريخها المؤرخ الإيطالي جوزيي موسكا Giosuè Musca في كتابه إمارة باري "L'emirato di Bari, 847–871" الصادر عام 1964.
واستمرت إمارة باري بين عامي 847 و871، إلى حين شنّ الإمبراطور الروماني وملك إيطاليا لويس الثاني (825 – 875) حملة عسكرية لإسقاطها. وبعد محاولة فاشلة، استأجر مرتزقة من الصقالبة المسلمين ومن قراصنة كرواتيا وصربيا بالإضافة إلى بعض مقاتلي الشعوب الجرمانية المنتشرة في إيطاليا وإسبانيا وحاصر باري أربع سنوات قبل اقتحامها. وقد استنجد حكام باري بالعباسيين والأغالبة دون جدوى.
وأمر إمبراطور روما بذبح جميع الأسرى ثم استباح جنوده باري وذبحوا أغلبية أهلها، خاصة العرب والبربر، باستثناء أميرها سودان الماوري الذي أُسر ونُكّل به وعُذّب حتى الموت.

الأغالبة يدخلون جنوب إيطاليا

في عام 787، أصبح إبراهيم بن الأغلب الوالي العباسي على تونس (ولاية إفريقية)، وعملياً أصبح إبراهيم بن الأغلب الوالي العباسي على تونس (ولاية إفريقية)، وعملياً أصبح صاحب إمارة مستقلة عام 800، وإن ظل تحت المظلة العباسية لطلب الدعم وقت الحاجة، وقد اتخذ الوالي الذي يعود نسبه إلى قبيلة بني تميم النجدية من القيروان عاصمة لإمارة الأغالبة التي أسسها.
ويتفق المؤرخ عزيز أحمد مع المؤرخ الإيطالي ميكيلي أماري (Michele Amari 1806 – 1889) في موسوعته تاريخ مسلمي صقلية، حول قصة صعود الإسلام في الأراضي الإيطالية.
فقد جرى تحوّل مهم عام 827، حين أرسل أمير الأغالبة زيادة الله بن إبراهيم جيشاً بقيادة القاضي أسد بن الفرات لفتح صقلية الإيطالية. وبالفعل نجح الأغالبة في السيطرة عليها، وجعلوا من باليرمو عاصمة لها، وهي لا تزال حتى اليوم عاصمة لصقلية.
ثم راحت انتصارات الأغالبة في الأراضي الإيطالية تتوالى بلا انقطاع، وحصدوا كورسيكا وسردينيا وباري ونابولي وتارانتو ومالطا.

صقلية تحاصر روما

عقب استتباب الأمر للأغالبة في إيطاليا الجنوبية زحفوا لمحاصرة روما، وكانوا يعرفون صعوبة احتلال عاصمة العالم المسيحي، ولكن الغرض من المغامرة العسكرية كان إيصال رسالة إلى البابا والدول المسيحية مفادها أن للمسلمين يداً طولى في جنوب أوروبا قادرة على الضرب في قلب أوروبا متى دعت الحاجة.
هكذا زحفت الجيوش الإسلامية من صقلية إلى روما عام 846 في زمن أبي العباس محمد بن الأغلب، أمير الأغالبة، ودخلتها ونهبت أحياءها وأجزاءً من الفاتيكان واشتبكت مع قوات الإمبراطور لويس الثاني ثم انسحب الجنود سريعاً محملين بالغنائم والأسرى بعد أن أوصلوا رسالة سياسية وعسكرية للعالم الغربي.
وكرر الأغالبة حصار روما مرة أخرى عام 870 في زمن الأمير محمد بن أحمد أبو الغرانيق، وتم فك الحصار عقب دفع البابا يوحنا الثامن 25 ألف قطعة من الفضة.

صقلية الفاطمية

في عام 909، نجح الفاطميون في انتزاع صقلية من أيدي الأغالبة، وهم من أسرة سياسية من الشيعة الإسماعيليين يمتد نسبها إلى السيدة فاطمة بنت النبي محمد.
ونجح الفاطميون في السيطرة على بعض ممرات جبال الألب وسط أوروبا خلال القرن العاشر، والإغارة بانتظام على الدويلات الإيطالية والألمانية، وشكلوا حائط صد يمنع تدفق القوى الغربية على جنوب إيطاليا أو على الأندلس.
وقد ولى الخليفة الفاطمي على صقلية واحداً من أهم أعوانه يدعى حسن الكلبي، الذي أسس إمارة بني كلب في صقلية بشكل مستقل عن الفاطميين، وإن حافظ على المظلة الفاطمية الصورية بالمعادلة السياسية نفسها بين الأغالبة والعباسيين.
ولجأ الفاطميون إلى تكتيك عسكري حديث تمثل في بناء قاعدة عسكرية قوية في لاتسيو الجنوبية وبدأوا في شحن العتاد العسكري والمواد التموينية استعداداً لزحف مطول على روما.
وأدرك الغرب أن الزحف الفاطمي لروما هذه المرة مختلف عن غارات الأغالبة، فقام البابا يوحنا العاشر بحشد الدويلات الفرنسية والإيطالية وقاد الجيوش بنفسه، وانضمت الإمبراطورية البيزنطية إلى التحالف المسيحي.
هكذا وقعت معركة غاريليانو (Battaglia di Garigliano) في يونيو 915 بالقرب من نهر غاريليانو في لاتسيو، وهزم الفاطميون على يد التحالف المسيحي على مقربة من روما، وتخلص العالم المسيحي من خطر الزحف الإسلامي على روما عبر تصفية القاعدة الفاطمية في لاتسيو.
لوحة تصويرية لمعركة غاريليانو
وسارع الإمبراطور أوتو الثاني من السلالة الساكسونية الألمانية التي حكمت الإمبراطورية الرومانية وعرشي ألمانيا وإيطاليا، مدعوماً بالشعب الجرماني الإيطالي (اللومبارد الإيطاليون)، إلى مهاجمة صقلية الفاطمية، وتقابل الفريقان في معركة ستيلو Battle of Stilo في كالابريا في 14 يوليو 982، فانتصر الفاطميون على الإمبراطورية الرومانية.
زحفت الجيوش الإسلامية إلى روما عام 846 ودخلتها ونهبت أحياءها وأجزاءً من الفاتيكان لإيصال رسالة سياسية للعالم الغربي
وأمام خسارة الجيوش المسيحية، أدرك أوتو الثاني حقيقة ما وصل إليه لويس الثاني يوم أسقط إمارة باري، من أنه يجب الاستعانة بالمرتزقة لأن الجيوش المسيحية غير قادرة على هزيمة الجيوش الإسلامية. وهكذا استأجرت الإمبراطورية الرومانية المرتزقة النورمان وهم أحفاد الفايكنغ، تلك الشعوب الجرمانية التي سكنت الدول الإسكندنافية.
وزحف النورمانديون على صقلية الكلبية الفاطمية، وأسقطوا حكمها الإسلامي عام 1061، فقامت دويلات إسلامية صغيرة حكمها مسلمون من أهل صقلية، واشتدت المقاومة الإسلامية ضد النورمانديين، ولكن روجر الأول قائد النورمانديين أنهى جميع أشكال الحكم الإسلامي في إيطاليا عام 1091.
وعلى عكس الإسبان عقب سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس، فإن النورمانديين عاملوا الإرث الإسلامي لصقلية الفاطمية باحترام وعمدوا إلى الاستفادة مما خلفته الحضارة الإسلامية، خاصة أن المسلمين سواء من أهل جنوب إيطاليا أو من المهاجرين العرب والبربر والفرس، شكلوا أغلبية سكان جنوب إيطاليا، وقد كوّن روجر الأول جيشاً من المسلمين، وجعل حاشيته من أطباء وفلاسفة وشعراء مسلمي صقلية.
أما ابنه روجر الثاني، فكان يرتدي ملابس عربية الطابع، ويطرز رداءه بحروف عربية وبنى كنيسة في باليرمو وزخرف سقفها بنقوش كوفية، في دلالة على تأثير الحضارة الإسلامية على المدن الإيطالية.
وقد زار الرحالة العربي ابن جبير الأندلسي، عام 1183، بعد نحو قرن من سقوط الحكم الإسلامي، باليرمو ودوّن في كتابه رحلة ابن جبير: "النصرانيات يرتدين مثل زي نساء المسلمين، فصيحات الألسن، ملتحفات، متنقبات خرجن في هذا العيد، وقد لبسن ثياب الحرير المذهب والتحفن اللحف الرائعة وانتقبن بالنقب الملونة وانتعلن الأخفاف المذهبة".
كما لاحظ ابن جبير استمرار الأثر العربي الإسلامي في الحياة الاجتماعية لسكان صقلية النورماندية من عمارة إسلامية.
وحاول النورمانديون الإبقاء على هذا التوازن في الحكم ونجحوا في ذلك طيلة قرنين من الزمن، حتى وفاة الملك روجر الثاني عام 1154 لينتهي عصر التسامح الإسلامي المسيحي في صقلية.
ومع ضغوط البابا، بدأت عمليات هدم المساجد، وجرت مذابح عام 1189. وفي عام 1245 تم جمع المسلمين الصقليين في مستعمرة لوسيرا في أجواء شديدة الشبه بمعسكرات الاعتقال النازية في القرن العشرين، وذلك بأمر من الإمبراطور الروماني الألماني فريدريك الثاني.
وبحلول عام 1300 صدر أمر بتفكيك المستعمرة وبيع مسلمي إيطاليا في سوق العبيد أو تهجيرهم خارج الأراضي الإيطالية.

الإرث الإسلامي في إيطاليا

رغم أن الحكم الإسلامي استمر ما بين عامي 827 و1091 فحسب، فإن آثاره الحضارية كانت مبهرة، فقد تمتع المسيحيون واليهود في إيطاليا بجو من التسامح والحرية الدينية.
وحافظ المسلمون على الهوية البيزنطية اليونانية لأهل صقلية المسيحيين، ولم يقوموا بتغيير هذه الهوية بعكس ما قامت به الإمبراطورية الرومانية في جنوب إيطاليا عموماً وصقلية خصوصاً، مغيّرةً الهوية القومية ومحوّلة اللغة المستخدمة من اليونانية البيزنطية إلى الإيطالية الرومانية.
وكان الفاطميون قد حوّلوا صقلية إلى مركز صناعي يضخ إنتاجه عبر قوافل تجارية إلى دول حوض البحر المتوسط.
وجلب المسلمون الليمون والبرتقال والتوت وقصب السكر والنخيل والقطن إلى إيطاليا، وانتشرت الحِرف اليدوية وصناعة الفخار، ومن أجل رعاية هذا النظام الزراعي علّموا أهل إيطاليا الري وحفر الترع والقنوات.
وشيد المعماريون المسلمون المساجد والمباني والقصور، ورغم انهيار الحكم الإسلامي في جنوب إيطاليا، ظلت الثقافة الإسلامية طاغية على الجنوب طيلة قرنين.

نقلا عن: raseef22.com