في بيت الفتاة أمنية "غسان أبو سويرح" يتسلل الفرح على رؤوس أصابعه، كاشفاً عن موهبة كامنة عرفت طريقها إلى الإبداع الدولي ناقلةً قسطا من معاناة غزة المحاصرة.
وفازت الكاتبة الشابة "أمنية غسان أبو سويرح" (21 عاما) بجائزة القصة القصيرة في مدينه "ماتيرا" الإيطالية التي تعقدها مؤسسة "إنيرجيا" الثقافية الأوروبية للجائزة الأدبية عن جائزة القصة القصيرة للكتاب الشباب للعام 2017.
وحملت قصة الكاتبة" أمنية أبو سويرح" عنوان "رسالة طبية: حب بريء" التي حملت صورةً قوية من المشاعر الإنسانية؛ حيث تفوقت إلى جوار خمسة كتاب شباب آخرين.
ولم تتمكن أبو سويرح، من حضور الحفل بسبب الحصار المفروض على القطاع، إلا أنها أرسلت فيديو للحفل تمكنت من خلاله نقل معاناة الشعب الفلسطيني في غزة.
غزة سبب فوزي
حين وصلت أمنية إلى غزة عام 2013 لم تكن تعرف تفاصيل المعاناة التي يرزح تحتها مليونا إنسان، ومع مرور الوقت انقشعت غمامة الغموض وفهمت الأمر على حقيقته.
وتقول أمنية لـ"المركز الفلسطيني للإعلام": "أحب قراءة الروايات من صغري، وكنت أكتب ما أشعر به، كنت أكتب وتتطور كتاباتي، وبعد انتقالي للحياة في غزة عام 2013 عشت الحرب وتأثرت بها".
لم تحصر أمنية قراءاتها في لون محدد من الروايات والقصص فلم تتردد في قراءة أي كتاب أعجبها عنوانه، لكن في ذاكرتها بعض الكتب التي أثرت فيها أكثر من غيرها.
وتتابع: رواية الطنطورية للكاتبة رضوى عاشور تأثرت بها، فهي مصرية لكن تملك معلومات غزيرة عن فلسطين، ما دعاني للاهتمام بتاريخ فلسطين، وكذلك تأثرت برواية الفيل الأزرق لطبيب نفسي يعالج الناس لكنه هو نفسه مريض.
ولا تزال كتابات أمنية حبيسة صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، لكن قصصها تتناول مواضيع إنسانية عن الأم والأب والأسرة والموت وأشياء أخرى.
وكانت أمنية قد كتبت قصتها الفائزة خلال مساق دراسي في تخصص الأدب الإنجليزي بالجامعة الإسلامية في ديسمبر الماضي؛ حيث نالت إعجاب مدرسة المادة، وعندما سمعت بالمسابقة أرسلت مشاركتها ونسيت الأمر.
رسالة فوز
بعد شهور من إرسال القصة تفقدت أمنية بريدها الإلكتروني فتفاجأت بنبأ سار يؤكد فوزها بجائزة مؤسسة "إنيرجيا" الثقافية عن جائزة القصة القصيرة للكتاب الشباب.
وتتحدث القصة عبر رسالة شكر عن فتاة تحمل اسم براءة، غيّب الموت خطيبها فوقفت إلى جوارها طبيبة نفسية اسمها سهى، وساعدتها على تخطي محنتها في قالب مليء بالمشاعر والقيم الإنسانية.
وتقول أمنية إن القصة تنتهي بدعوة سهى لحضور حفل زفاف براءة التي واصلت دربها، وارتبطت برجل آخر، مشيرةً أن الصداقة الحقيقية تجلّت في مساعدة إنسانية بعد تجربة غيّب الموت فيها إنسانا مهما في حياة براءة.
وتتابع: القصة القصيرة فن يعكس الواقع؛ فمثلاً لي صديقات يطلبن مني كتابة ورقة إهداء لهن من أمام المسجد الأقصى ولا يعرفن أن غزة محاصرة، ولا يعرفن قضيتنا ولا معاناة غزة.
بيت مثقف
"تأثرت بكتاباتي لكنها في الحقيقة تفوقت عليّ" بهذه العبارة يفتتح السيّد غسان أبو سويرح والد أمنية الحديث معرباً عن سعادته بفوز ابنته بالجائزة التي شكّلت مفاجأة له.
ويتابع: "كنت أتابع كتاباتها وأتفاجأ من الصور الخيالية في أسلوبها، وبعد أن عادت مع أمها لغزة عام 2013 عاشت الحرب مع أمها وحدهما في غزة، وعام 2015 لاحظت اتساع مداركها في الكتابة لحد خيالي، وكنت أسألها هل فعلاً هذه من كتاباتك؟!".
وتؤكد والدة أمنية التي كانت تعمل معلمة للغة العربية في الإمارات، أنها تفاجأت في الأعوام الثلاثة الماضية من تطوّر قدرات أمنية التعبيرية بعد أن بدأت تدرس الأدب الإنجليزي، وتعيش هموم الناس في غزة منذ وصولها قبيل الحرب الأخيرة.
وتضيف: "سألخص لك أمنية في كلمات صغيرة، أمنية طفلتنا الصغيرة لا تعي شيئا من مشاكل الحياة، كبرت فجأة وزاد اهتمامها بالناس في غزة، ولم أكن أصدق مؤخراً أنها تكتب مثل تلك الكلمات".
وتتمنى أمنية أبو سويرح أن تواصل طريق الكتابة متزودة بمزيد من الرصيد الثقافي ونشر مزيد من القصص عن معاناة غزة المحاصرة؛ ليعرف العالم أكثر عن غزة.
ونقتطف في هذا التقرير أحد النماذج الإبداعية تحت عنوان (رسالة طبية: حب بريء).
حيث تقول:
عزيزتي سهى، أنا الآن أقدر صنيعك العظيم الذي قدمتيه في معالجة براءة. أقدر صبرك في التعامل مع عنادها وحزنها. أنتِ طبيبة نفسية رائعة وأنا أعلم أنكِ كنتِ دائمة الفضول لتعرفي قصتها الكاملة، قصتها المفصّلة التي لم تخبرها لأحد غيري. أنا لا أتفاخر ولكنها حرفياً ليست بشخصٍ طبيعته الكلام. وفي هذه الرسالة سأكشف لكِ عن غموض قصتها كشكرٍ على ما فعلتيه.
تعرّفت على براءة في سنتي الثانية من الجامعة، كانت كلتانا تدرس اللغة العربية، وأصبحنا صديقتين منذ اللحظة التي تقابلنا فيها. إنها فتاة مشرقة وابتسامتها لا تفارق وجهها، وتحمر وجنتاها بسهولة. كل شخص يقابلها يحبها تماما كما فَعَلْت. اسمها براءة وهي فعلا بريئة. اسم على مسمى.
مرة عندما خرجت من الجامعة وكنت أبحث عن سيارة أجرة، خرجت هي من سيارة أجرة ونادتني. كانت تعيش في مخيم النصيرات، مثلي. وبينما كانت تتحرك السيارة، جاءت أغنية على المذياع.
سألتني: "أتعرفين هذه الأغنية يا ليلى؟"
أجبت بلا.
وبصوت هادئ منتحب قالت: "هذه الأغنية تعني الكثير لي." أطرقت رأسها وأكملت: "إنها تذكرني بشخص عزيز على قلبي".
فرددت بتساؤل: "أوه!!"
وفي تلك اللحظة أخبرتني بقصتها وكأنها أرادت أن تحدث أحدا عن حزنها بيأس ولكنها لم ترد الشفقة. ربما لم تكن ستخبرني لو لم نسمع الأغنية.
قالت: "في السنة الثانية من المدرسة الثانوية، خطبني ابن عمي. كان خريجا. كنت أتسلل أحيانا خارج المنزل فقط لأقابله"، ابتسمت وكأن كل شيء فعلاه معا كان يمر من أمام عينيها. أخذت نفسا عميقا وأكملت: "كان يزورنا كل يوم وعندما يدخل إلى منزلنا، كان أول شيء يفعله هو البحث عني دون أن يأبه لمن تبقى من أفراد عائلتي".
شعرت بالحب والشغف في حديثها. كل شخص في عائلتيهما أحب حبهما النقي ولم يعترض عليه أحد. أنا أيضا أحببت حبهما فقط من سماعي عنه. رأيت الشوق في عينيها، رأيت شوقا غامضا حزينا.
"وفجأة، توقف عن الزيارة، ولم أعرف لماذا! كنت أحاول الاتصال به ولكنه في كل مرة كان يقول أنه متعب ولا يستطيع مغادرة السرير،" قالت ما قالته بصوت متقطع. "ثم مرت ثلاثة أشهر دون أن أراه فذهب أبي لزيارته. لم يتوقع أبي أن يرى ما رآه. لم نتوقع أنه سيكون حقا مريضًا. كان ضعيفا وشاحبا كالجثة. ولأن أبي طبيب مخضرم، عرف من النظرة الأولى ما كان حسام يعاني منه."
بدأت دموعها تملأ عينيها، فقلت: "لا تتحدثي إن كان هذا يضايقك."
هزت رأسها واستمرت في الحديث: "نُقِل إلى مستشفى في القدس ليتلقّى العلاج المناسب، وتخطّى سنته الأخيرة في الثانوية. وتم تشخيصه مصابا بسرطان الدم النخاعي."
كانت تحاول جاهدة إخفاء دموعها ولكنني رَأيْتُ الدموع. سمعت صوتها الراجف وشعرت بألمها كأنه ألمي.
"بقي في القدس ستة أشهر، وجهزت حقائبي للحاق به ولكن عيد الأضحى كان قريبا فأعاده أبوه ليقضي العيد معنا،" وابتلعت ريقها. "في أحد الأيام بعد العيد كان مُتْعَبا جدا فأخبر أباه أنه ذاهب للنوم وطلب منه... أن... لا... يوقظه." صمت! أصمتت. فهمت صمتها وملأت الدموع عينيّ. كانت تبكي وتجبر نفسها على النطق: "و... و... لم يستيقظ بعدها قط." غطت عينيها بيديها وبكت بصمت.
كان المطر يهطل بغزارة في ذلك اليوم الشتوي البارد تماما كدموعها. نظرت لها. لم أصدق أن هذه الفتاة البريئة المشرقة قد خاضت تجربة كهذه. كم تحمل من حزن في قلبها! إنها شجاعة جدا لتحملها حزنها وإخفائه وراء ابتسامتها البريئة. كطائر ذبيح يرقص من الحزن. لم أتوقع أو حتى أتخيل أنني سأراها يوما بهذه الحالة.
بعد أن هدأت، أكملت بتردد: "في ذلك اليوم كنت عائدة من درس خصوصي. كنت أحضر لامتحاناتي النهائية في سنتي الأخيرة من المدرسة الثانوية. وصلني ذلك الاتصال. وأغمي علي وسط الطريق."
أنا كمستمعة كنت في حزن عميق فكيف بها هي من مرت بهكذا تجربة. ربما، في ذلك الوقت، كانت قد مرت سنتان منذ موته، ولكنها لا زالت تحبه وكأنه كان اليوم السابق قد مات، ولكن حبها له لن يفعل أبدا.
أخبرتني مرة أن أباها أرادها أن تختار الطب تخصصا ولكنها رفضت.
أعتقد أنها ربما كانت خائفة من مقابلة أشخاص كتلك الحالة فيضعف قلبها المكسور أكثر.
أنا تزوجت وحملت ولكنها كانت لا تزال عازبة. كانت مستعدة لعيش ما تبقى من حياتها على ذكراه.
"كل شيء يذكرني به. الشوارع التي مشيناها معا والأماكن التي زرناها معا. إنه في كل مكان. عطره، رائحته، لمسته، وعيناه اللتان تلمعان عندما ينظران إلى عينيّ. كيف تتوقعين مني أن أتخطاه؟ لا أستطيع!" حادة أتت الإجابة من فمها عندما كنا نتجادل.
تجادلنا وتشاجرنا كثيرا. لم يكن الجدال على فكرة الزواج ولكنني كنت حقا أريدها أن تتخطاه. فنصحتها بزيارتك. كنت قد أخبرتك أنها فقدت خطيبها وهو الشيء الوحيد الذي كنتِ تعرفينه. كان من الصعب إقناعها بزيارتكِ. ولكن في النهاية ذهبت وبقدراتك المذهلة ومهارتك أقنعتها بعد جهد جهيد.
شكرا لكِ سهى. أنا أقدر ما فعلته من كل قلبي. وهي أيضا. طلبت مني أن أدعوكِ لحفل زفافها، إنها خجلة جدا من الحديث معكِ بعد ما مررتِ به في سبيل علاجها. وأيضا طلبت أن أخبرك قصتها الكاملة. ففَعَلْت.
تعالي سهى. إنها في انتظارك على أحر من الجمر. تعالي سهى. أنا أشتاقك.
مع خالص حبي.
ليلى.
نقلا عن موقع المركز الفلسطيني للإعلام