أربعون سنة قد مضت الآن عن صدور الدراسة الشهيرة لكاتارينا مومزن حول "غوته وألف ليلة وليلة"، ومع ذلك فإنه يتراءى للمرء أن النتائج الخطيرة لذلك البحث لم تجد طريقها بعد إلى شرائح عريضة من الرأي العام. والسبب في ذلك لا ينبغي أن يخفى عن أحد وهو أنها تنطوي على شحنة ثقافية متفجرة إلى أبعد الحدود. إلا أنها اليوم ذات طابع لصيق بالأحداث وعلى نحو مدهش.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الخلاصات المعرفية قد حصلت في فترة زمنية سابقة على بحوث ميشيل فوكو وإدوارد سعيد، وبعيدا عن السقف الفكري لكارل ماركس أو أية وصاية نظرية محددة، بل فقط من خلال قراءة ممحّصة دقيقة ودون انحياز، فإن الانجازات الفيلولوجية لكاتارينا مومزن ومعايناتها الخالية من الانحياز والمسبقات ستكون بارزة الأهمية. إن النتائج التي توصلت إليها بحوث كاتارينا مومزن، والتي يجدها كل قارئ في كتبها المترجمة إلى الإنكليزية والعربية أيضا، تفيد في أبسط ما يمكن أن يستفاد به بأنه ما كان لغوته أن يكون غوته من دون المشرق. ويتعلق الأمر هنا بصفة خاصة بعلاقته بكتاب ألف ليلة وليلة الذي عرفه وكان مغرما به منذ زمن طفولته المبكرة، وقد ثبت أنه ما انفك يقرأه ويعيد قراءته حتى مرحلة متقدمة جدا من عمره.
تأثير شهرزاد
ولا تنحصر التأثيرات التي خلفها اهتمام غوته بالمشرق في ما جاء في ديوانه الشعري المعروف تحت عنوان "الديوان الشرقي الغربي" فحسب، بل هي تنتشر على مجمل أعماله، من باكورات مسرحياته الشعرية التي تعود إلى الستينات من القرن الثامن عشر حتى "فاوست الثاني" الذي ألفه عند أواخر حياته في مستهل الثلاثينات من القرن التاسع عشر. إلا أن رواياته وأقاصيصه على وجه الخصوص هي التي كانت تحمل تأثيرات الأدب المشرقي أكثر من غيرها، كما أثبتت ذلك كاتارينا مومزن.
إن "السجيّة الشهرزادية" لغوته، حسب العبارة التي أطلقتها الباحثة كاترينا مومزن (من مواليد سنة 1925 ببرلين) على الموهبة التي يتمتع بها في ابتكار وتطوير الأقاصيص على طريقة شهرزاد، هذه السجية هي العنصر الجوهري إن لم نقل المحدِّد في ذلك الطابع المدهش والحديث الذي ما زالت تحتفظ به نصوص غوته إلى اليوم.
من هذا المنطلق تكون مؤلفات كاتارينا مومزن قد أضفت حججا متينة على الرأي القائل بأنه ما كان لشاعر ألمانيا الأكبر ومن ورائه مجمل النهضة الأدبية الألمانية للقرن الثامن عشر أن يكونا على ما كانا عليه من دون العالم المشرقي. وبصفة أوضح: إن المشرق والعالم العربي الإسلامي لم يعودا منذ القرن الثامن عشر ذلك الآخر المختلف بامتياز، بل أصبحا مكونة من مكونات الهوية الثقافية الألمانية لا يمكن التنصل منها وإغفالها.
هاجس العلم والموضوعية
خلاصة تبدو في متناول اليد لفرط ما قدمت مومزن من الأدلة على ذلك، إلا أنها لم تعمد أبدا إلى صياغة هذه النتيجة والتعبير عنها حرفيا وبنفسها. ومن خلال هذا التحفظ يتضح أن الهاجس العلمي الموضوعي هو الذي كان مسيطرا في جهود الباحثة وليس السعي إلى مجرد التعبير عن موقف أو رأي: إنها تقدم لنا ما يحث على التفكير دون أن تعرّض نفسها إلى الشك بأن التفكير الذي تستنهضه هو في الآن نفسه دفع إلى التفكير في اتجاه بعينه. لكن عندما يقتضي الأمر اتخاذ موقف فإن كاترينا مومزن لا تتردد في ذلك.
وانطلاقا من قصيدة في "الديوان الشرقي الغربي" يستدعي فيها غوته مرجعا من نص رحلة قديمة إلى بلاد الشيشان تقدم مومزن بيانا حماسيا ضد الاضطهاد الذي يمارسه الروس على الشعب الشيشاني. لندعها تعبر عن ذلك بكلماتها الخاصة: "هذا الشعب -وبحكم التكتل العالمي ضد الارهابء ينظر إليه اليوم من قبل الروس، وكذلك من قبل جزء غير بسيط من العالم كشعب "إرهابي" ، بل والأدهى من ذلك وأمر أنه يعامل أيضا على أنه كذلك. ألا يبدو واضحا بالأحرى أن الأمر لا يتعلق هنا بمقاومة للإرهاب، إنما، وتحت تعلة الإرهاب، باضطهاد يمارس على الحرية وعلى فكرة الحرية التي يبدو جليا أنها قيمة راسخة لدى هذا الشعب، وقد استطاع أن يحفظها ويصونها عبر العصور حتى حدود القرن الواحد والعشرين؟
إن عدم القبول بالانصياع إلى حكم أجنبي ورفض الخضوع، وإرادة الحفاظ على استقلال الذات لا يمكن اعتبارها مرادفة للإرهاب. والعالم الحالي يعيش حاليا خطرا يتمثل في تعمد تشويه كل تعبير عن إرادة التحرر لدى الشعوب وشجبه كـ"إرهاب". عوضا عن هذا يمكن للعالم أن يتعلم بعض الأشياء من هذا الشعب الرائع الذي يقف خارج الحداثة والذي لا يعرف عقلية عبودية متأسسة، لا أثر لعبارة "أمر" في لغته ولا يعترف بحق الأقوى، بل إنه يفضل الموت على القبول بالخضوع للاستعباد.
إن تعاطف غوته مع مثل هذه الطباع من شأنه أن يدفع بنا إلى إعادة التفكير في أوضاع هذا الشعب الشجاع الذي يرى نفسه في وقتنا الحاضر مهددا بالإبادة الكلية لا لشيء إلا لأنه لا يقبل بالعبودية ولا يريد الركوع إلا لله." هكذا يبدو اليوم، في زمن غدت فيه النزاعات بين مختلف الكيانات الثقافية هي المهيمنة على وسائل الإعلام، أن كاترينا مومزن التي ظلت لمدة خمسين سنة منكبة على البحوث والكتابة حول غوته وعلاقته بالمشرق كانت طوال ذلك الوقت متقدمة على عصرها.
وقد حان الوقت الآن لإعادة اكتشافها وإعادة قراءة كتبها. لقد حظيت الكاتبة بتقديرات وتكريمات عديدة عن مداخلاتها التي لم تعرف توقفا إلى حد اليوم، كما أن الترجمات العديدة لأعمالها وخاصة إلى لغات العالم الإسلامي قد جعلتها معروفة على الصعيد العالمي. وفي يوم الأحد 18 سبتمبر احتفلت الباحثة الكبيرة المختصة في اللغة والآداب الألمانية بعيد ميلادها الثمانين.
بقلم: شتيفان فايدنر
تر جمة: علي مصباح
المصدر: موقع قنطرة
شتيفان فايدنر: مترجم وكاتب وصحفي متخصص بالأدب العربي ورئيس تحرير مجلة "فكر وفن" الصادرة عن معهد غوته.