يتذكر الناس عند قدوم رمضان بشائره وانتصارات المسلمين فيه، وهذا حق،
ولكن ثمة بشائر أخرى تغيب، وهي إهلاك الله للظالمين في رمضان.. اخترنا منهم
في هذه السطور ثلاثة.
(1) أبو جهل عمرو بن هشام
فرعون هذه الأمة، والمحرض الأول على نبي الله محمد (صلى الله عليه
وسلم)، ولم يُبْنَ موقفه على جهل أو التباس، بل كانت قضيته: كيف يخرج من
بني هاشم نبي؟! إنه أمر يحسم المنافسة بينهم وبين بني مخزوم، وهكذا سيطرت
عليه التنافسية القبلية العصبية الجاهلية حتى كان أشد الناس وأخبثهم
وأشرسهم في عداوة هذا الدين، فكان اللسان السليط والسوط المديد، أشرف بنفسه
على تعذيب من آمنوا من بني مخزوم ومواليهم ومن استطاع من الضعفاء في مكة.
ولما جاء الخبر بأن قافلة قريش في خطر نهض يجمع لحرب المسلمين دفاعا عن
القافلة، فمن رأى منه ضعفا أو تكاسلا في الخروج عيَّره وأهانه حتى يلزمه
الخروج، ثم لما وصل الخبر بأن القافلة قد نجت ومال القوم إلى السكوت أجج من
جديد نار الحرب وقال: لا والله، حتى نأتي بدرا فننحر الجزور وتغني القينات
فلا تزال العرب تهابنا. ولشدة تهييجه وحميته لم يستطع أحد من كبار قريش أن
يحجزه عن رأيه ولا أن يمنع وقوع الحرب.
ولقد طمس الله على قلبه حتى دعا على نفسه قبل بدر، يقول: اللهم أقطعنا
للرحم وآتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة (فاهزمه غدا)، وقد كان.. وأسفرت
معركة بدر عن مقتلة هائلة حصدت الصف الأول من زعماء قريش، من رضي منهم
بالخروج ومن لم يرض، ومن سعى في منع الحرب ومن لم يسع، وهكذا أورد الرجل
قومه موارد الهلاك.
وشاء الله تعالى أن تكون ميتته على يد غلامين صغيرين من الأنصار ترصدا
له حتى رمياه، ثم أجهز عليه الرجل القليل النحيف الضعيف: عبد الله بن
مسعود، وكان ممن ناله أذاه من قبل، فجزَّ رأسه ولم يستطع حملها، وقتله وأبو
جهل يقول له: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم! فلم يترك الكبر ولا
السبَّ حتى في لحظته الأخيرة.
(2) أبو طاهر القرمطي
الرجل الخبيث، وصاحب الجريمة العظمى في تاريخ الإسلام: اقتحام الحرم
وقتل أهله ونزع الحجر الأسود، وقد نشط وبرز أمره صغيرا ومات صغيرا كذلك،
فقد هلك أبوه أبو سعيد الجنابي – مؤسس جناح القرامطة في الأحساء – فجأة
فانتزع أبو طاهر هذا زعامة القرامطة من أخيه الأكبر، ثم لم يلبث إلا قليلا
في ترتيب أمر أتباعه حتى بدأ الإفساد في الأرض فهاجم البصرة وأقام فيها
مذبحة كبرى لسبعة عشر يوما في (ربيع الآخر 311هـ)، وهاجم قافلة الحجاج
العائدة من مكة (المحرم 312هـ) فقتل ما شاء وأسر ألفين وترك الباقي في
الصحراء حتى ماتوا جوعا وعطشا، ثم هاجم الكوفة، ثم هاجم الأنبار واستولى
عليها، وصار يعترض طريق الحجاج حتى امتنع الحج من جهة العراق، ثم هاجم مكة
نفسها فامتنع الحج جملة وذعر أهلها وفرَّ بعضهم إلى الطائف، واستطاع في كل
مرة هزيمة جيوش الخلافة العباسية – التي كانت حينئذ تعاني فوضى ونزاعا بين
أجنحتها – هزائم قبيحة رغم تفوقهم في العدد والعدة، حتى إن جيشها الرئيسي
اعتصم خلف نهر فقطع الجسور ولم يجسر على مواجهته.
وفي واحدة من أضعف لحظات الخلافة العباسية، حيث جرى انقلاب عسكري فاشل
على الخليفة المقتدر بالله (317هـ) هاجم أبو طاهر القرمطي مكة المكرمة يوم
التروية (8 ذي الحجة 317هـ) فدخل الحرم وارتكب فيه مذبحة شنيعة، فلم ينجُ
أحد ولو تعلق بأستار الكعبة، فقتل خلقا كثيرا وألقى الجثث في بئر زمزم،
وصاح من فجوره “أنا الله وبالله، أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا”، ونزع
كسوة الكعبة ومزقها ونزع باب الكعبة وهدم القبة المبنية على زمزم، وأمر
باقتلاع الحجر الأسود فكان الذي اقتلعه يصيح “أين الطير الأبابيل، أين
الحجارة من سجيل؟” ثم أخذوا الحجر إلى بلادهم ونهبوا ديار المكيين وقتلوا
منهم نحو ثلاثين ألفا.
واستمر إفسادهم وهجومهم على البلاد في ظل عجز من الخلافة العباسية،
وتناحر قادتها، حتى أنعم الله على الأمة بهلاك زعيمهم أبي طاهر هذا (رمضان
332هـ) وعمره ثمانية وثلاثون عاما فقط، وتضعضع من بعده أمر القرامطة، وزاد
حال الخلافة العباسية سوءا، فالحمد لله أنه لم يعمِّر!
وانقضت بموته عشرون عاما عصيبة لم يكن في تاريخ الإسلام مثلها!
وانقضت بموته عشرون عاما عصيبة لم يكن في تاريخ الإسلام مثلها!
(3) جنكيز خان
الطاغية المشهور الذي جعل للمغول مكانا في التاريخ، وواحد من أطغى
الجبابرة في تاريخ البشر، الذي هلكت على يديه ملايين النفوس وخربت على يديه
المدائن الزاهرة الناضرة المتفجرة بالعلم والحضارة، والذي يُضرب به المثل
في إنشاء أمة كما يضرب به المثل في إهلاك أمم.
وبرغم صعوبة نشأته بين يُتْم وسجن، إلا أنه برز وفاق أقرانه، واستطاع
بما أبداه من شجاعة وجلد توحيد أمر قبيلته المغولية في يده، ثم بمزيج من
السياسة والقوة وحَّد القبائل المغولية تحت سلطانه بعد حروب أهلية داخلية
خرج منها بلقبه الذي غلب اسمه: جنكيز خان، أي: سلطان العالم.
ومنذ هذه اللحظة بدأ الإعصار المغولي في اكتساح الممالك، فقد استولى على
أجزاء واسعة من شمال الصين ودمَّر الإمبراطورية العريقة، ثم زحف إلى
البلاد الإسلامية فاكتسحت جيوشه بلاد ما وراء النهر (بلاد آسيا الوسطى)
ومنها إلى بلاد الصقالبة والروس، وفي الجنوب اكتسحت جيوشه أفغانستان وشمال
الهند وفارس، وسقطت الحواضر الكبرى في كل هذه الأنحاء.
وأكمل أبناؤه من بعده الطريق فدخل في سلطان المغول: الصين وكوريا والهند
ومعظم جنوب آسيا وكل وسط آسيا وأجزاء من شرق أوروبا حتى أوكرانيا وبولندا،
ووصل ابنه هولاكو إلى عاصمة الدولة الإسلامية، بغداد التي تفيض بالحضارة
منذ خمسمائة عام، فدمَّرها وخربها، وواصل مسيره نحو الشام على سواحل
المتوسط الشرقية.. فتحولت ساحة الدنيا في أيامه إلى ساحة دم واسعة!
واشتهر في التاريخ وصف ابن الأثير لهم لما قال: “لقد بقيت عدة سنين
معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا
وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي
يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت
نسيا منسيا، إلا أنني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم
رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى،
والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت
المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، إلى
الآن، لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا
ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل،
وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعن
من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل
بالنسبة إلى من قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل،
ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا،
إلا يأجوج ومأجوج.
وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا
على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا
الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد
كالسحاب استدبرته الريح”.
وقد هلك هذا الطاغية بالصين في شهر رمضان (624هـ)، ففرغت الأرض من أحد أكثر من وطأها شرا ودموية.