كتاب " الهدنة" للكاتب الإيطالي «بريمو ليفي» (تورينو 1919 ـ 1987) - الإيطالية نيوز

كتاب " الهدنة" للكاتب الإيطالي «بريمو ليفي» (تورينو 1919 ـ 1987)

 بريمو ليفي (طورينو 1919 ـ 1987)
الترجمة من الإيطالية إلى العربية لكتاب " الهدنة" للكاتب الإيطالي بريمو ليفي.

أمحاش حسن 
(مجاز في اللغات و الأداب العصرية)
كلية اللغات و الأداب الأجنبية




                    ذوبان الجليد

في الأيام الأولى من فبراير عام 1945، وتحت اندفاع الجيش الروسي الذي بات قريبا منا، كان الألمان قد أفرغوا الحوض المعدني السيليزي بسرعة فائقة، بينما في أماكن أخرى، و في ظروف مماثلة، لم يترددوا في هدم اللاجر بالنيران و الأسلحة و قتل من فيه من المعتقلين، بينما في حي أوشفيتز كانوا يتصرفون  بطريقة مختلفة: بناء على أوامر عليا ( مملاة، حسب ما يبدو،  من «هتلر» شخصيا ) كانوا ينوون، بأي  تكلفة، "استرجاع"  كل رجل قادر على العمل. لهذا فإن جميع المعتقلين الأصحاء رُحلوا في ظروف مُرعبة نحو "بوشينفالد" و "ماوثاوسن"، في حين تُرك المرضى  ليتدبروا أمورهم بأنفسهم.

وكان من الممكن، ولعدة إشارات، إستخلاص النيّة المبيّتة لذى الألمان، الكامنة في عدم ترك أي رجل على قيد الحياة في معسكرات الإبادة، لكن الهجوم العنيف بالطائرات و سرعة تقدم الجيش الروسي دفعهم إلى تغيير التفكير واللوذ بالفرار تاركين واجبهم وعملهم الإجرامي غير مكتملين.

في مستوصف اللاجر، في "بونا ـ مونوفيتز" بقينا ثمانمئة شخص، من هؤلاء، مات قرابة خمسمئة معتقلا بسبب الأمراض، والبرد، والجوع قبل حتى أن يصل الروس إليهم، أما مئتين أخرين ماتوا على  الفور في الأيام التالية على الرغم من الإسعافات.

وكانت الكتيبة الروسية الأولى التي قد وصلت على مرأى من المخيم نحو منتصف يوم 27 يناير 1945. كنا أنا و «تشارلز» أول من لاحظها: كنا نقوم بنقل جثة «سوموجي» إلى الحفرة الجماعية، وكان أول أموات رفاقنا في الغرفة. قلبنا الحمّالة على الثلج المتفسخة، لأن الحفرة كانت قد امتلأت عن آخرها، ولأن عملية دفن أخرى كان يستحيل القيام بها، حينها قام «تشارلز» بخلع قبعته لكي يقلي التحية على الأحياء و الأموات.

وكان هناك أربعة عساكر شبان على متن خيول يتقدمون بحذر، والرشاشات على أكتافهم، على طول الطريق التي تنتهي عند حدود المعسكر. عندما اقتربوا من السلك الشائك توقفوا لإلقاء نظرة، متبادلين كلمات قصيرة تتسم بالخجل، و نظرات تتسم بحرج غريب على الجتث المبعثرة، وعلى الأكواخ المتهالكة، و علينا نحن أيضا الأحياء القلة.

كانوا يبدون لنا أجسادا و واقعا مثيرا للإعجاب، معلقين (كانت الطريق تعلو المعسكر) على ظهور خيولهم الضخمة، بين اللون الرمادي للثلج وللسماء، وساكنين تحت هبوب الرياح الرطبة التي تهدد بذوبان الثلوج.

 وكان هناك على ما يبدو، وهكذا كان، كأن العدم ممتلئ بالموت الذي كان يطوف بنا، منذ عشرة أيام، كنجوم آفلة، بعد عثوره على مركز صلب و نواة مكدِّسة: كان هناك أربعة رجال مسلحين، غير أنهم لم يكونوا مسلحين ضدنا، كأنهم أربعة رسل السلام، مع وجوه فطرية وطفولية، تحت قباعاتهم الجلدية الثقيلة. لم يكونوا يلقون التحية ولا حتى يبتسمون؛ وكانوا يبدون مضطهدين، ليس فقط من الرأفة، لكن أيضا من اعتبار مرتبك، كان يوصد أفواههم ويشد عيونهم بإحكام على المشهد المأتمي. كان العار نفسه الذي كنا نحن على معرفة جيدا به، ذلك الذي كان يغرقنا بعد التصفية، والذي عند كل مرة كان علينا أن نشاهده أو نكون عرضة لإهانة الكرامة: إن العار الذي لا يعرفه الألمان، هو أن يحاول الحق أمام الخطأ المرتكَب من قبل الأخرين، ويؤنبه على أنه موجود، وعلى أنه ولج بطريقة لا رجعة فيها إلى عالم الأشياء الموجودة، وعلى أن النية الحسنة  كانت لاشيء أو ضئيلة، ولم تنفع في الحماية.

هكذا، بالنسبة لنا، حتى لحظة الحرية رنت بخطورة ومحدود. في الوقت نفسه، وملأت أرواحنا بالغبطة وبشعور مؤلم بالحياء، الذي كنا نريد  به غسل ضمائرنا وذاكراتنا من الفظاعة التي تجثم فيها: ومن الألم، لأننا كنا نشعر بأن هذا لم يكن ليحدث، ولأن لا شيء أبدا قد يحدث للغاية جيد... و أن يمحو ماضينا، ولأن آثار الإهانة ستبقى في داخلنا إلى الأبد، وفي ذاكرات من حضرها، وفي الأماكن حيث وقعت، وفي الحكايات التي رويناها. ولأن، وهذا كان الامتياز الهائل لجيلنا ولشعبي، لم يستطع أحد أبدا أن يدرك أفضل منا الطبيعة المستعصية للإهانة، التي تتفشى كالعدوى، والتي من العته الاعتقاد بأن العدالة الأدمية تستأصلها. هذه هي منبع لشر لا ينفذ: تهشّم جسد وروح الغرقى، تطفئهم وتجعلهم أذلة صاغرينترتفع مثل العار على الظالمين، وتدوم مثل الكراهية في الناجين، وتظهر بكمية هائلة، في آلاف الأشكال، ضد الرغبة نفسها عند الجميع، مثل التعطش للانتقام، ومثل الانحطاط الأخلاقي، والإنكار، والعياء والتنازل.

هذه الأشياء، التي كانت حينها مميَّزة بطريقة خاطئة، والتي حذَّر الكثيرون منها  على أنها فقط بمثابة موجة مفاجئة لعياء قاتل، جلبت لنا فرحة التحرير. لذا، القليلون بيننا ركضوا نحو المنقِذين، والقليلون وقعوا على الأرض للصلاة. تشارلز وأنا وقفنا عند الحفرة المليئة بالأطراف التي تغطيها الكدمات، بينما الأخرون كانوا يحطمون السلك الشائك؛ ثم رجعنا بالحماّلة فارغة لنقل الخبر إلى رفاقنا. بالنسبة لبقية اليوم، لم يحدث شيء، وهوالأمر الذي لم يفاجئنا، والذي اعتدنا عليه منذ وقت طويل. في غرفتنا، أصبح سرير المتوفي «سموجي» مشغولا على الفور من قبل الشيخ «تآيل»، مع نظرات احتقار من رفيقيَّ الفرنسيين.

«تايل»، حسب ما كنت أعرفه عنه آنذاك، كان "مثلثا أحمرا"، معتقلا سياسيا ألمانيا، وكان أحد قدماء اللاجر؛ وعلى هذا النحو، كان ينتمي كحق إلى الطبقة الأرستقراطية في المعسكر: لم يكن يعمل يدويا (على الأقل في السنوات الأخيرة)، وكان يتلقى الطعام والألبسة المنزلية.

لهذه الأسباب نفسها، نادرا للغاية ما يكون السياسيون الألمان نزلاء في المستوصف، الذي فيه، من ناحية أخرى، كانوا يتمتعون بامتيازات متنوعة: أولها، قبل كل شيء، الهروب من التصفية (الفرز). ولأنه، في لحظة التحرير، كان هو الوحيد، الذي قلده عناصر في وحدات "إس إس" (قوات الأمن الخاصة النازية) بمنصب "رئيس البركة"، لبلوك20، الذي ينتمي إليه، بالإضافة إلى غرفتنا للمرضى شديدي العدوى، أيضا قسم المصابين بداء "السل" وقسم "الزحار". كونه ألماني، أخذ هذا التعيين غير المستقر بجدية كبيرة. خلال الأيام العشرة التي فصلت مغادرة الـ"إس إس" عن وصول الروس، بينما كان كل واحد يحارب في معركته الأخيرة ضد الجوع، والصقيع والمرض، كان تايل قد قام بإجراء عمليات تفتيش دؤوبة لإقطاعيته الجديدة، مراقبا حالة الأرضية والأواني (غاميلّي) وعدد الأغطية (واحدة لكل نزيل، حي أو ميت). وفي إحدى زياراته لغرفتنا كان قد أشاد بـ«آرثر» بسبب النظام والنظافة التي كان قادرا على الحفاظ عليها. «آرثر» الذي لم يكن يفهم اللغة الألمانية، ولا حتى اللهجة السكسونية لـ «تايل»، رد عليه: "أيها المسن المقزز"، "ذو الرأس الصلب"؛ على الرغم من ذلك، «تايل»، منذ ذلك اليوم فصاعدا، ومع سوء استخدام سلطة واضح، اعتاد على المجيء كل مساء إلى غرفتنا لاستخدام السطل المريح (للتبرز): في المعسكر بأكمله، كان الوحيد الذي كانت صيانته تقام بانتظام، والوحيد الموجود بالقرب من مدفئة.

إذن، حتى ذلك اليوم، كان الشيخ «تايل»، بالنسبة لي، غريب، ولذا فهو عدو؛ بالإضافة إلى كونه قوي، فهو عدو خطير. بالنسبة لناس مثلي، يعني بالنسبة لعمومية اللاجر، لم تكن هناك فروق دقيقة أخرى: خلال كل العام الطويل للغاية الذي قضيته في اللاجر، لم يكن لدي أبدا لا فضول ولا حتى فرصة لاسستكشاف البنية المعقدة للتسلسل الهرمي للمعسكر.

كان المبنى القاتم لقوى الشر يعلو فوقنا، وكانت نظراتنا على الأرض. مع ذلك كان «تايل»، الشيح المناضل المتصلب بمئات النضالات لأجل حزبه وداخل حزبه، والمتصخِّر من عشرات الأعوام من الحياة الشرسة والغامضة في اللاجر، الرفيق والأمين في أول ليلة لي من الحرية.

بالنسبة لطول اليوم، كان لدينا الكثير ما نفعله لكي يكون لدينا الوقت للتعليق على الحدث، الذي كنا نشعر بأنه يميز النقطة الحاسمة لوجودنا بأكمله؛ وربما من دون وعي، بحثنا عنه، ....، بالضبط بهدف ألا يكون لدينا وقت، لأن أمام الحرية كنا نشعر ضالّين، مُفرَغين، ضامرين، وغير مناسبين من ناحيتنا.

لكن خيّم الليل، الرفقاء المرضى رقدوا، ورقد حتى «تشارلز» و«آرثر» في نوم البراءة، بما أنهم كانوا في اللاجر منذ شهر واحد فقط، ولم يمتصا بعد السّم فيه: أنا وحدي، بما أنني مرهَق، لم أجد سبيلا إلى النوم، بسبب العياء نفسه والمرض. جميع أطرافي  كانت  تؤلمني، والدم ينبض بتشنّج في رأسي، وكنت أشعر بالحمى تغزوني. ولم يكن هذا فحسب: كما لو يكون حاجزا وانهار، بالضبط في ذلك الوقت الذي فيه كل تهديد كان يبدو أقل، و الأمل في العودة إلى الحياة كفّ أن يكون جنونا، كنتُ مغمورا بألم جديد وأوسع. أولا مدفون ومقيد على هامش الوعي من قبل الآلام الأكثر إلحاحًا: ألم المنفى، ألم البيت البعيد، ألم العزلة، وألم الأصدقاء المفقودين، وألم الشباب الضائع، وألم الحشد من الجثت من حولي.

خلال عامي في "بونا" رأيت أربعة أخماس من رفاقي يختفون، لكن لم أعاني قط من الوجود الملموس، وحصار الموت، وأنفاسه الدنيئة على بعد خطوة، خارج النافذه، في السرير المجاور، وفي شراييني ذاتها. لذلك كنت أستلقي بين اليقضة والنوم، مريضا ومفعَما بالأفكار المُروِّعة.

لكن، انتبهت مبكرا إلى أن شخص أخر كان ساهرا، كانت الأنفاس الغزيرة للنائمين تتداخل أحيانا مع لهث أجش وغير منتظم، يقطعه سعال، وآهات وتنهدات مخنوقة. كان «تايل» يبكي، وهو بكاء متعَب ويفتقر للحياء لرجل مسن لا يطاق مثل عري الشيخوخة. ربما اكترث «تايل»، في الظلام، لبعض حركاتي؛ والوحدة التي سعينا إليها حتى ذلك اليوم، لأسباب مختلفة، لا بد من أنها أثرت عليه بقدر ما فعلت معي، لأنه في منتصف الليل سألني “هل أنت مستيقظ؟”، ومن دون أن ينتظر الرد تسلق إلى سريري، وبسلطة جلس بجانبي. 

لم يكن سهلا التفاهم معه؛ ليس فقط لأسباب لغوية، ولكن أيضا لأن الأفكار التي تجثم على صدورنا في تلك الليلة الطويلة كانت لا حصر لها، رائعة ورهيبة، بالأخص كانت مختلطة. قلت له بأنني أعاني من الحنين؛ وهو، الذي كان توقف عن البكاء، (عشر سنوات) قال لي "عشر سنوات!": وبعد عشر سنوات من الصمت، وبصوت حاد، بشع ومحترَم في الوقت نفسه، بدأ يغنّي "نشيد الأممية"، فتركني منزعجا، ومُشكِّكا، ومتأثرا.

الصباح جلب لنا الإشارات الأولى للحرية. وصل (طبعا بإلزام رسمي من الروس) عشرين من المدنيين البولنديين، رجال ونساء، بدأوا بحماس ضئيل فية إعادة ترتيب وتنظيف ما بين "الأكواخ"، وإزالة الجثت. في نحو منتصف اليوم، وصل طفل خائف كان يسحب بقرة من الرسن؛ جعلنا نفهم بأنها لنا وأن الروس هم من أرسلها، ثم ترك البهيمة وهرب مثل الوَميض. لم أعرف تفسير كيف ذُبح هذا الحيوان المسكين في دقائق قليلة، وأُفرغ من أحشائه وقُطّع إلى أجزاء، وتناثرت بقاياه في جميع أركان المعسكر حيث يُعشّش الناجون.

اعتبارا من اليوم التالي، رأينا فتيات أخريات بولنديات يتجولن في المخيم، شاحبات من الشفقة والاحتقار: كن ينظفن المرضى ويعالجن لهم على أفضل نحو الجروح. أوقدن أيضا في وسط المعسكر نارا هائلة، التي يزيدن من اشتعالها بحطام الأكواخ المتهالكة، والتي عليها كن يطهين الحساء في أقداح الحظ. أخيرا، في اليوم الثالث، رأينا عربة بأربعة عجلات تدخل إلى المعسكر، يقودها بمرح "يانكل"، وهو"هافْتلين" (سجين): كان شابا يهوديا روسيا، ربما الروسي الوحيد بين الناجين، على هذا النحو كان قد وجد له بشكل طبيعي وظيفة مترجم  وضابط اتصال مع الأوامر السوفييتية


بين صوت السوط ال....، أعلن عن المهمة التي أوكلت إليه، وهي نقل جميع الأحياء بيننا، في جماعات صغيرة تتألف من ثلاثين أو أربعين شخصا في اليوم، إلى اللاجر المركزي لـ"أوشفيتز"، الذي تحول إلى مستشفى عملاق، وأن يبدأ بالمرضى الأكثر خطورة.

في أثناء ذلك، الجليد كان قد بدأ في الذوبان، وهو ما كنا نخشاه منذ عدة أيام، وإلى الحد الذي كان يختفي فيه الثلج، كان المعسكر يتحول إلى مستنقع كئيب. الجثت والقمامة حولت الهواء الضبابي والناعم غير قابل للاستنشاق. حتى الموت لم يتوقف عن حصد الأرواح: كان المرضى يموتون بالعشرات في أَسرّتهم الباردة، يموتون هنا وهناك في الشوارع الموحلة، كالمصعوقين، الناجون الأكثر جشعا، الذين، باتباعهم بعماء للأوامر المتسلطة لجوعنا القديم، بدأوا يملؤون بطونهم، بطريقة مبالغ فيها، بحصص اللحوم التي كان الروس، الذين كانوا حتى ذلك الوقت ملتزمين بالقتال على الجبهة غير البعيدة، يرسلونها بشكل غير منتظم إلى المعسكر، والتي كانت أحيانا قليلة، وأحيانا لاشيء، وأحيانا بوفرة مجنونة.

لكن من بين كل الأمور كانت تحدث من حولي، فأنا لم أكن أنتبه أنه كانت تحدث بطريقة عرضية وغير واضحة. كان يبدو بأن العياء والمرض، مثل وحوش شرسة وجبانة، كانا ينتظران في كمين اللحظة التي فيها جردت نفسي من كل دفاع لكي يهاجمانني من الخلف. استلقيت في ذهول محموم، نصف واع فقط، وكان يساعدني «تشارلز» بأخوة، وكنت أتعذَّب من الجوع والآلام الحادة في المفاصل. لم يكن هناك أطباء، ولا حتى أدوية. كنت مصابا أيضا بالتهاب في الحلق، وكان نصف وجهي منتفخا: أصبح الجلد أحمرا وخشنا، وكان يحرقني كما لو يكون بسبب حروق؛ ربما كنت أعاني من عدة أمراض في وآن واحد. عندما جاء دوري للصعود على عربة «يانكل»، لم أعد قادرا على الوقوف. رُفعتُ على العربة من قبل «تشارلز» و«آرثر» إلى جانب شحنة لأخرين على وشك الموت، الذين لم أشعر كثيرا أنني مختلف عنهم. كان المطر ينزل ضعيفا والسماء تبدو منخفضة وباهتة.

بينما الخطوات البطيئة لخيول «يانكل» كانت تسحبني نحو الحرية البعيدة جدا، ...للمرة الأخيرة أمام عيني "الأكوخ" حيث عانيت ونضجت، و"ساحة النداء" التي لا يزال يقوم بجانبها "مشنقة" و"شجرة عيد الميلاد" العملاقة، و"باب العبودية"، الذي يمكن عليه  القراءة، حتى ولم يعد لذلك قيمة، الكلمات الثلاثة للسخرية: "العمل يجعلك حرًّا".

اللاجر:
أوشفيتز:
*"بوشينفالد:
*"ماوثاوسن:
*"بونا ـ مونوفيتز"
*«سوموجي»
* «تشارلز»
* «تآيل»: كان "مثلثا أحمرا"، معتقلا سياسيا ألمانيا، وكان أحد قدماء اللاجر. كان ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية في المعسكر. كان يتمتع بامتيازات متنوعة.
* "إس إس" (قوات الأمن الخاصة النازية): 
آرثر: 
«يانكل»: كان"هافْتلين" (سجين). شاب يهودي روسي. وظيفته مترجم.
*

المعسكر الكبير

في "بونا"، لم تكن هناك معلومات كثيرة بشأن "المعسكر الكبير"، أما عن "أوشفيتز"، قيل بالضبط أن السجناء المرحلون من معسكر إلى معسكر كانوا قلّة، لم يكونوا ثرثارين (لم يكن أي سجين كذلك)، ولا حتى يمكن التصديق، بسهولة، بوجودهم.

عندما كانت عربة «يانكل» تجتاز العتبة الشهيرة، بقينا مذهولين. لأن "بونا مونوفيتز"، بسكانه الإثنتي عشرة ألفا، كان بمثابة قرية مع المقارنة: تلك التي دخلنا إليها كانت مدينة شاسعة. لا توجد "بلوكات" من طابق واحد، ولكن مباني مربعة الشكل، قاتمة، لا حصر لها، ومكونة من ثلاثة طوابق من الطوب العاري، جميعها متشابهة، تمتد بينها شوارع مرصوفة بالحصى، مستقيمة وعمودية، على مد البصر. كان الكل مهجورا، وصامتا، مسحوقا تحت السماء المنخفظة، وممتلئا بالوحل والمطر والهجران.

حتى هنا، كما في كل مرة من طريقنا الطويل جدا، فوجئنا بأن نُستقبَل بحمّام، عندما كنا بحاجة إلى أشياء أخرى كثيرة. 

لكن، ذلك لم يكن حمام إهانة، أو حمام سخيف ـ شيطاني ـ ومقدَّس، أو حمّام موعظة أسود مثل ذلك الأخر الذي ميّز نزولنا إلى كون معسكر الإبادة، ولم يكن حتى حمّام عملي، ومطهّر، وعالي التقنية، مثل ذلك الذي مررنا به، بعد عدة أشهر، في أيادي أمريكية، ولكن كان حمّاما بطريقة روسية، متناسبة مع البشر، مرتَجلة وتقريبية. 


لم أقصد أن أشكك بأن أخذ دش، بالنسبة لنا، في تلك الظروف، كان لائقا، ولكن كان ضروريا، ومرحب به. لكن في هذا الدش، كما في كان في جميع تلك الدشوش المحفورة في الذاكرة، كان من السهل التعرّف، خلف تلك الأجساد الملموسة والأدبية، ظل هائل رمزي، ورغبة غير ملمة، من طرف السلطة الجديدة التي من الفينة والأخرى كانت تمتصنا إلى مجالها. أن يجرّدنا من ملابس حياتنا السابقة، ويجعل منا رجالا جدد، متوافقون مع نماذجهم، لكي يضعوا علينا علامتهم.

أنزلتنا الأذرع القوية لممرضتين سوفياتيتين من العربة: "بو مالو، بومالو" (مهلا، مهلا)؛ كانت الكلمات الروسية الأولى التي سمعتها. كانتا فتاتين نشيطتين وخبيرتين. اقتاداتنا إلى أحد مرافق اللاجر الذي أعيد إصلاحه لفترة وجيزة، فخلعتا ملابسنا، وأمراتنا بالاستلقاء على ألواح خشبية التي كانت تغطي الأرض، ثم، بأيدي رحيمة، ولكن من دون الكثير من المجاملات، قامتا بتنظيفنا بالصابون، فركاتنا، وذلكاتنا، وجففاتنا من الرأس إلى إلأقدام. 

سارت العملية سلسة وسريعة معنا جميعا، باسثثناء بعض الاحتجاج الأخلاقي اليعقوبي من «آرثر»، الذي أعلن نفسه "مواطنا متحررا"، وفي وعيه، ملامسة تلك الأيدي لجلده العاري يتعارض مع المحرمات الموروثة عن الأجداد. لكنه وجد عقبة خطيرة جاء دور المجموعة الأخيرة. 
لم يكن أحد منا يعرف من هذا، لأنه لم يكن قادرا على الكلام. كان مثل اليرقة، رويجل أصلع، معقود كالبرغي، نحيف جدا، ملفوف على شكل رقائق بسبب تقلص رهيب في جميع عضلاته: أنزلوه من العربة محمولا، مثل كثلة جامدة،  والآن
ملقى على الأرض على جانبه، مطوي ومتصلب، في موقف دفاعي يائس، مع ركبتين مضغوتين حتى أمام جبهته، ومرفقين مشدودين على الوركين، ويدين على شكل إسفين، أصابعهما مصوبة نحو الكتفين. الأختان الروسيتان حاولتا تمديده على ظهره، ما يجعله يصدر صراخات حادة كفأر: أما ما تبقى كان مجرد تعب لا طائل منه، كانت أطرافه  تتراخى  بمرونة تحت القوة، لكن ما إن تُترَك حتى تنطلق عائدة إلى وضعها الأصلي. على أي، قررتا أخذه تحت الدش كما هو، وبما أن لديهما أوامر محددة، فقد قامتا بغسله بأفضل ما في وسعهما، مع ضغط الإسفنج والصابون في ذلك التشابك الخشبي لذلك الجسد؛ في الأخير، قامتا بشطفه بضمير حي، وسكبتا عليه دلوين من الماء الفاتر.

شارلز وأنا شاهدنا ، ونحن عرييان و....، ذلك المشهد برأفة ورعب. بينما كانت إحدى اليدين ممدودتين ، شوهد الرقم الموشوم  للحظة: كان 200.000، واحد من "فوسجي". - يا إلهي، إنه فرنسي! ـ قال تشارلز، واستدار نحو الحائط في صمت.

ناولاتنا قميصا وتبابين، واقتاداتنا لدى الحلاق الروسي لكي، لآخر مرة في مشوارنا، حلقوا لنا الشعر بأكمله.الحلاق كان رجل عملاق أسمر البشرة، مع عينينن جامحتين، وكما بها مس (spiritati): كان يزاول  (فنّه) مهنته بعنف متهور، ولأسباب غير معروفة لي، كان يحمل رشاشا على كتفه. 
ـ «إيطاليانو موسوليني» قال لي في حزن، و قال للفرنسيين «فررونسي لافال»؛ حيث يمكنك رؤية مدى ضئالة الأفكار العامة وهي تساعد في فهم الحالات الفردية. 
هنا افترقنا: تشارلز وآرثر، شفيا ونسبيا في صحة جيدة، لحقا بمجموعة الفرنسيين، واختفيا عن عالمي. أنا، المريض، دخلت إلى المستوصف  حيث حدث فحصي بإيجاز، ونقلت على وجه السرعة إلى "قسم العدوى" الجديد.

هذا المستوصف كان مصمما هكذا عن قصد، وأيضا لأنه بالفعل كان يفيض بالمرضى (في الواقع، ترك الألمان الفارّون فقط المرضى في الحالات الأكثر خطورة في "مونوفيتز" و"بيركيناو"، وكان الروس قد حشدوهم جميعا في المعسكر الكبير): لم يكن، ولم يكن مسموحا بأن يكون مكانا للعلاج، لأن الأطباء هم أنفسهم كانوا  مرضى، وكانوا بضع عشرات، وحتى الأدوية المعدات الطبية كانت منعدمة تماما، بينما ما لا يقل عن ثلاثة أرباع الخمسة آلاف معتقل في المعسكر كانوا في حاجة للعلاج.

المكان الذي سُلّمتُ إليه كان بمثابة غرفة كبيرة ومظلمة، مليئة حتى السقف بالآلام والتوَجُّع. ربما لثمانمائة مريض، لم يكن إلا طبيب حراسة واحد، ولا حتى الممرضات. كان المرضى أنفسهم مضطرين إلى تلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحا بأنفسهم واحتياجات رفاقهم الأكثر خطورة. قضيت هناك ليلة واحدة فقط، وأتذكرها مثل كابوس. في الصباح، الجثث في الأسرة أو متروكة متناثرة على الأرض، وكان ممكنا عدّها بالعشرات.

في اليوم التالي نُقلت إلى غرفة صغرى، كانت تحتوي على عشرين سريرًا فقط: في واحدة من هذه، لبثتُ لمدة ثلاثة أو أربعة أيام، مضطهَدًا بحمى شديدة، واعيًا فقط على فترات، وعاجز عن تناول الطعام، وأتعذب من عطش فظيع.

بحلول اليوم الخامس، اختفت الحمى: شعرت بأنني خفيف كسحابة، جائعًا ومتجمدًا، لكن رأسي كان صافيا، وعيني وأذني كأنما شحذتهما الإجازة القسرية، وتمكنت من إستعادة الاتصال بالعالم.

في غضون تلك الأيام القليلة، كان تغيير ملحوظ من حولي. كان آخر ضربة شديدة بمنجل، وإغلاق حسابات: المحتضرون كانوا قد ماتوا، بينما، في كل الآخرين بدأت الحياة تتدفق مرة أخرى بفوضى. خارج النوافذ، على الرغم من تساقط الثلوج بغزارة، لم تعد الطرق الجنائزية (المذكرة بالموت/الحزينة/ الفظيعة) في المخيم مهجروة، بل على نقيض ذلك، كانت تعج بالذهاب والإياب النشيط والمربك، والصاخب، والذي كان يبدو غير مقيّد بأهداف أخرى. وحتى وقت متأخر من المساء، كان يمكن سماع صرخات مبتهجة أو غاضبة، أو نداءات، أو أغاني. 

رغم انتباهي، وانتباه جيراني على السرير، نادرا ما كان يتمكن من التهرب من الحضور المهووس، والقوة المميتة لتأكيد الطفل الأصغر و بيننا، للأكثر براءة، لطفل، هو «هوربينيك». هوربينيك كان "لا شيء"، إبن الموت، إبن أوشفيتز. كان يبدو عمره في الثالثة تقريبا، لم يكن أحد يعرف عنه شيء، لم يكن يعرف التكلم ولم يكن لديه إسم: ذلك الإسم الفضولي، «هوربينيك»، منحناه له نحن، ربما من واحدة من النساء،التي أوّلت مقاطع الكلمات غير المركبة التي كان يصدرها الصغير. كان مشلولا من وسط جسده إلى الأسفل، وكانت رجلاه ضامرتين ونحيفتين مثل القش؛ لكن عينيه الغائرتين في وجهه مثلث الشكل والهزيل، تنطلقان على قيد الحياة بشكل رهيب، مليئتين بالطلب، والتأكيد، والرغبة في الانطلاق، وكسر قبر الصمت. الكلمة التي فقدها، والتي يهتم أحد بتعليمهها، هي الحاجة إلى الكلمات، ضغطت في بصره
بإلحاح شديد: لقد كانت نظرة جامحة وإنسانية في نفس الوقت، بالفعل ناضجة وتحكم، لا أحد من بينها عرفنا كيف نحافظ عليه، كان مليئًا بالقوة والألم.